أهمية علم المعرفة
وعن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاَّ بعد(2). وعن سفيان بن عيينة، قال سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: وجدت علم الناس كله في أربع، أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك(3).
وهذه الرواية الأخيرة دلت على أمر مهم جدا بالإضافة لما قررناه سابقا، وهو أن الوصول إلى الهدف المنشود يتوقف أيضا على معرفة الموانع التي تقف في طريق الوصول إلى ذلك الهدف، لأجل اجتنابها وعدم الانزلاق في واحد منها. فالمتحصل مما تقدم أن السلوك الإنساني الاختياري ينطلق من مبادئ علمية؛ تسمى بـ(الأيديولوجيات)، أو القضايا التي يعبر عنها بـ(ما ينبغي أن يكون). وتبتني هذه القضايا العلمية على مجموعة أخرى من القضايا وهي التي يعبر عنها بالقضايا النظرية الكلية التي تشكل ما يسمى بـ(الرؤية الكونية) أو ما هو كائن، وهي عبارة عن القضايا الكلية التي تمثل أجوبة عن الأسئلة الثلاث المتقدمة وما يتفرع عنها من أسئلة، والتي تعبر عن وجهة النظر العامة عن حقيقة الموجودات بشكل عام من حيث حقيقتها ومبدئها ومنتهاها. وفي الاصطلاح الشرعي يعبر عن الرؤية الكونية بـ(أصول الدين) وعن الأيديولوجيات بـ(فروع الدين)، التي تتمثل بالأحكام العملية الجزئية في قسميها العبادات والمعاملات. ولكن يبقى السؤال المهم والملح هنا، والذي ينبغي علينا أن نبحث عن الجواب الصحيح له، وهو: كيف يمكننا أن نكون رؤية كونية صحيحة؟، أو كيف لنا أن نكشف عن واقع هذه الموجودات لنحدد مبدئها ومنتهاها وما يتعلق بحقائقها؟ إن بناء رؤية كونية صحيحة يتوقف بشكل أساسي على الاختيار الصحيح للمنهج المعرفي الذي سنستعمله في الكشف عن الواقع ومعرفة الخطأ من الصواب، وهذه الخطوة تعتبر هي الخطوة الأولى والأساس الذي ستبتني عليه أركان الروية الكونية لنا، ليس هذا فحسب، فليس المنهج المعرفي المختار لنا يشكل أساسا للروية الكونية فقط، بل ولابد أن يمثل الدعامة الأساسية التي ستصعد مع أركانها لأجل أن يحافظ على استقامتها، ويحميها من كل ما يعارضها ويعرضها للانهيار، كالمهندس الحاذق عندما يبني بناية كبيرة وعالية فإنه يجعل الأساس محكما أولا، ثم يخرج من نفس ذلك الأساس دعائم حديدية تدعم البناء الفوقي وتحفظه من الانهيار عندما يتعرض للعواصف والزلازل وغيرها. ومن هنا يتضح لنا أهمية الاختيار الصحيح للمنهج المعرفي الذي سنستخدمه ليكون أساسا وحافظا للصرح العلمي الذي يكّون رؤيتنا الكونية التي تنطلق منها الإيديولوجية ومنهج الحياة. وهنا يأتي دور علم المعرفة، إذ أنه العلم الباحث عن المناهج المعرفية المستعملة في الكشف عن الواقع، وحجية تلك المناهج، ودائرة تلك الحجية سعة وضيقا، وتحديد العلاقة بين تلك المناهج، وتحديد المنهج الحاكم عليها، وكيفية إمكان استفادة كل منهج من المنهج الآخر، حدود تلك الاستفادة. هذه هي الفائدة الأساسية لعلم المعرفة، وهناك فوائد أخرى مهمة جدا أيضا، منها: - تأسيس قواعد الحوار المنطقي البنّاء والصحيح إن أهم ما تميز به البشر هو الفكر والاستدلال، وكذلك نقل الأفكار والآراء من شخص إلى آخر، وبالتالي إمكان التحاور وعرض الأفكار المختلفة فيما بين أبناء البشر، لأجل نقدها وترشيدها، وبالتالي الوصول إلى مبتنيات فكرية متطابقة أو على الأقل متقاربة وغير متقاطعة، ويعد الحوار الفكري وتبادل الآراء من أبرز مظاهر المجتمع الإنساني المتحضر، لأن من أبرز معطيات الحوار البنّاء بينهم هو التوصل إلى حلّ الكثير من المشكلات العلمية النظرية والعملية. ولكن كيف يكون الحوار بناء؟! ولكي يكون الحوار بناء لابد أن ينطلق من أسس علمية مشتركة بين طرفي الحوار، وأن يعتمدوا على الأسلوب الصحيح المنطقي فيه. وأهم الأسس التي يجب أن تراعى في الحوارات الفكرية والإعتقادية، هو الاتفاق أولا على المنهج المعرفي المحكَّم في مادة الحوار، فنحن نشاهد نجاح الكثير من المؤتمرات والندوات العلمية التي تجري بين أرباب العلوم الطبيعية كالطب والهندسة والفلك وغيرها، وليس ذلك إلا لأنهم تجاوزوا عقدة الاتفاق على المنهج المعرفي الواحد، إذ أن الجميع يتفقون على استعمال المنهج التجريبي المختبري في مثل هذه العلوم، ويتحاكمون ويتحاججون على أساس معطيات التجربة والمختبر، أما الحوارات الفكرية والإيديولوجية فعادة ما تتخذ طابع الجدل العقيم والعناد والتخاصم والتهاتر، وليس ذلك إلا لفقدان المنهج المعرفي الموحد في مثل تلك الحوارات، فلابد من تنقيح المنهج المعرفي أولا وفي رتبة سابقة، ليتم تعيين الميزان الذي يمكن الرجوع إليه ويكون حجة على الطرفين في معرفة الحق من الباطل عند الاختلاف بين المتحاورين. فالحوار إن كان يدور حول قضايا أيديولوجية عملية مثلا، فينبغي لطرفي الحوار أن ينطلقوا من رؤية كونية واحدة، مؤسس لها على ضوء منهج معرفي محدد، وإن كان يدور حول قضايا فكرية وإعتقادية، فينبغي أن ينطلقا من منهج معرفي مشترك بينهما لتنقيح نقاط الخلاف في تلك القضايا. وعملية تنقيح المناهج المعرفية، وتحديد مجالاتها، لاختيار المنهج الصحيح الجاري في ذلك المجال، إنما يكون على عهدة علم المعرفة. - تأسيس القواعد السياسية العامة لإدارة المجتمع لاشك في أن الإنسان كائن اجتماعي، يعيش على شكل جماعات يتبادل أفرادها المنافع المختلفة لأجل الوصول إلى التكامل المنشود له المادي والمعنوي، ولما كانت النشأة المادية ـ التي خلق عليها الإنسان في الدنيا ـ تقتضي بطبيعتها التزاحم والتصادم في المصالح والحقوق لأفراد المجتمع، احتاج المجتمع إلى قانون، يحفظ المصالح والحقوق، ويرد المعتدي، ويحمي الضعيف، وهذا أمر غير قابل للإنكار.
ولكن يأتي السؤال المهم هنا، وهو: كيف يمكننا وضع القانون الصحيح الذي يلبي للإنسان هذا الاحتياج الملح؟!. إن الطريقة الصحيحة لوضع أي قانون تعتمد أولا وبالدرجة الأساس على تحديد الأسس العامة التي توضح حقيقة الإنسان وحقيقة كماله المطلوب تحصيله، وبعبارة أخرى يعتمد على الرؤية الكونية الصحيحة، التي ـ كما قلنا سابقا ـ تنطلق من منهج معرفي معين، فالإدارة السياسية للمجتمع البشري تتوقف في النهاية على منهج معرفي معين يجب اختياره بشكل محدد وصحيح أولا، وهو ما يتم في علم المعرفة.