ماذا أسقطت المجتمعات على قضايا المرأة؟

  • 12 - 09 - 2017
  • 8626
ثمّة نقاشٌ معقود في مسألة مظلوميّة المرأة في الإسلام كدين أو في المجتمعات الإسلاميّة؛ فيذهب بعضهم إلى أنّ الإسلام نفسه لم ينصف المرأة سواء في بعض الآيات أو في الروايات والأحاديث، ويرى آخرون أنّ المسلمين زادوا في اضطهاد المرأة، فمنعوها من التعلم ومن الخروج من المنزل...



وفي منتصف القرن الماضي برزت دعوات في أكثر من بلد من البلدان العربيّة والإسلاميّة إلى "تحرير المرأة" وإلى "سفورها" وإلى كسر التقاليد التي تكبّل تعليمها وعملها... ولا شك أن تلك الدعوات كانت تعبّر، من جهة، عن واقع حقيقيّ إلى حدّ بعيد؛ لأنّ المرأة لم تنل نصيبها، لا من التعلّم، ولا من أيّ مشاركة اجتماعيّة، ولا من حقوقها الأساسيّة، مثل حقّها في قبول الزواج أو رفضه... لكنّ هذه الدعوات كانت، من جهة أخرى، متأثّرة، بالحركة النسائيّة الغربيّة في أوروبّا، أي بما يُعرف بـ "النسويّة" التي رفعت شعاراً لها المساواة التامّة بين المرأة والرجل في كلّ المواقع والمسؤوليّات، وفي كلّ ميادين العمل، انطلاقاً من فرضيّة أنّ الاختلاف الفيزيولوجيّ ليس هو الذي يحدّد المهنة أو المستقبل أو الأدوار، وإنّما الثقافة والتربية هما من يفعل ذلك. ولذا، ترى هذه الدعوات أنّ على المرأة أن ترفض هذا التمييز على أساس الفيزيولوجيا، وأن تعمل من أجل حقّها بالمساواة بحسب القدرة والكفاءة.

لقد خفت صوت "النسويّة" في العقدين الماضيين، كحركة منظّمة، لكنّ أفكارها حول "المساواة" استمرّت وتسلّلت إلى كثير من العقول، وصولاً إلى الأمم المتّحدة نفسها، وإلى منظّمي مؤتمراتها الدوليّة والإقليميّة؛ فمن هذه الأفكار بزغ فجر "الجندر" الذي لا يعني سوى "النوع الإنساني" ، الذي لا يميّز بين الذكر والأنثى على أساس فيزيولوجيّ، بل يعتبر أنّ أدوارهما المختلفة هي نتاج التربية، وليست نتاج الاختلاف في الاستعدادات الفيزيولوجيّة أو النفسيّة...

واختلف الإسلاميّون أيضاً في نظرتهم إلى المرأة؛ فذهب بعضهم إلى تشريع منعها من الخروج، ومن العمل، مهما كان نوعه. ومنهم من لم يسمح لها بأيّ مشاركة اجتماعيّة أو سياسيّة. ولا تزال بعض الدول الإسلاميّة، تمنع المرأة هذا الحقّ إلى اليوم، بما في ذلك حقّ الانتخاب وصولاً إلى حقّ قيادة السيّارة... وللأسف يتيح هذا الواقع توجيه الاتّهام إلى الإسلام نفسه، وليس إلى بعض الاتّجاهات الإسلاميّة أو بعض المفكّرين الإسلاميّين، أو حتّى بعض الحكومات التي تمنع المرأة هذه الحقوق. وغالباً ما يستخدم أصحاب الاتّجاهات الفكريّة غير الإسلاميّة هذه النماذج، للادّعاء بأنّ الإسلام لم يفعل سوى تكريس تخلّف المرأة.

لكنّ هذه التجارب ليست الوحيدة التي تعبّر عن واقع المرأة في البلدان الإسلاميّة المعاصرة. فثمّة الكثير مّما يمكن الإشارة إليه، في مشاركة المرأة في ميادين العمل المختلفة، من المؤسّسات الحكوميّة، إلى الهيئات الأهليّة والتطوّعيّة، إلى المشاركة السياسيّة كما في لبنان وفلسطين بشكل بارز.

لا شكّ أنّ التغيّرات التي تحصل في العالم على مستوى الأفكار، ووسائل الاتّصال، أثّرت على المسلمين بطرق مباشرة وغير مباشرة في نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى المرأة، وإلى الآخر. وذهب بعض المفكرين والباحثين والباحثات من المسلمين، إلى محاولة تقليد النموذج الغربي، بل إلى محاولة تبنّي التوصيات الدوليّة، في ما يتعلق بحقوق المرأة والأدوار المنوطة بها؛ لأنّ الكثير من القوانين أو العادت والتقاليد لا تزال مجحفة بحق المرأة ...لكنّ المسألة الأساس ليست في هذا الحقّ أو ذاك. بل بين نظرتين الى المرأة، من خلال ما نسمية "إطار الانتماء". وهذا الإطار هو الذي يحدّد الحقوق والواجبات، ومهام العمل وضروراته والحاجة الفرديّة، أو الاجتماعيّة إليه. والمقصود بإطار الانتماء، المرأة كفرد أو المرأة كجزء من أسرة تنتمي إليها.

إنّ عمل المرأة في هذا العصر بات أمراً مألوفاً في معظم البلدان الإسلاميّة، باستثناء قلّة منها، وباستثناء بعض الحركات الإسلاميّة التي تمنع ذلك. وبات طبيعيّاً أن نرى مسلمات محجّبات، في معظم المهن والمواقع والمسؤوليّات، وهذا ليس موضع التساؤل أو القلق، وإن كان هناك من يشترط تحقّقه بالتزام الضوابط الشرعيّة في اللباس، أو في الاختلاط أثناء العمل؛ لكنّ الانطلاق من واقع المرأة كفرد، لن يتوقّف في قضيّة حقوقها عند أيّ حدّ. ولذا يمكن أن نلاحظ أنّ معظم ما صدر عن الأمم المتّحدة بشأن حقوق المرأة أو الطفل، أو سواهما، إنّما فعل ذلك في إطار فرديّة كلّ منهما، بحيث أطلق حرّيّة المرأة في العمل، وفي تأكيد الذات وفي المساواة، كما جعل حقّ الطفل في الحصول على الرعاية والاهتمام العاطفيّ والنفسيّ والغذائيّ؛ لكنّ هذه الحقوق للمرأة وللطفل التي صدرت بشكل منفصل، ستبدو متعارضة عندما نسأل من أين سيحصل الطفل على حقّ الرعاية والعطف والحنان، إذا لم يكن من الأمّ مباشرة! وكيف ستحقّق له الأمّ ذلك، إذا كانت تعمل ولا تتمكّن من توفير هذه الرعاية له!

أمّا الانطلاق من أولويّة الانتماء الأسريّ، فسيغيّر النظرة إلى حقوق المرأة، وسيجعل هذه الحقوق رهن العلاقات المتداخلة في الأسرة، بحيث تتكامل هذه الحقوق مع حاجات الأفراد الآخرين، أي الزوج والأولاد... ؛ أمّا خارج الأسرة، فستتبدّل أولويّات الحقوق والواجبات، لتصبح فرديّة لا صلة لها بالآخر، إلاّ في الإطار القانونيّ.


* د. طلال عتريسي - بتصرف


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

5 قواعد استراتيجية لإنتاج العلم والمعرفة

يمضي الطالب الجامعي ما يقارب 20 سنة في التعلّم، ما بين المدرسة والثانوية والجامعة، وأحيانًا تطول أكثر من ذلك بكثير.
......المزيد

6 رؤساء موساد سابقون: "نحن في مرحلة خطرة لمرض خبيث"

مفاضلة الحكام الصهاينة: ضياع القيم بين اللاأخلاقي والاجرامي ابدى ستة رؤساء سابقين لجهاز لموساد الصهيوني قلقهم على مستقبل الكيان الصهيوني
......المزيد

ثقافة الأشهر الثلاثة (رجب، شعبان وشهر رمضان)

تلتقي برامج التثقيف الاسلامي عند محور مركزي يمثل الدورة الثقافية السنوية الأم التي تتفرع عنها وتتماهى معها كل برامج السنة
......المزيد

الشهادة

الإمام والتحرك السياسي: لقد كابد المسلمون عموماً، والعلويون وشيعة آل البيت الويلات جراء الحكم العباسي المتغطرس، فقد قاسوا ظلم المنصور
......المزيد

إمامة الكاظم (عليه السلام): مواجهة منظمة وجهاد مرير وطويل

إمامة "الكاظم" (ع): مواجهة منظمة وجهاد مرير وطويل(1) لقد كانت حياة موسى بن جعفر عليه السلام المليئة بالأحداث؛ حياةً مليئةً
......المزيد

إطلالة عامة على حياة الإمام الكاظم عليه السلام

شخصية الإمام الكاظم عليه السلام: ولد أبو الحسن موسى عليه السلام في الأبواء بين مكة والمدينة في يوم الأحد السابع
......المزيد

رؤية الإمام قدس سره في خصوص تنصيب الولي الفقيه

يظهر من بعض الكتابات الفقهيّة للإمام أنّ الوليّ الفقيه يتمّ تنصيبه من قِبَلِ الشارع المقدّس. حيث يعتقد الإمام أنّ الولاية
......المزيد

الجمع بين رؤيتي الإمام الخميني قدس سره

قد يخطر لبعضٍ، وفي الوهلة الأولى، وجود تناقض بين رؤيتي الإمام المتقدّمتَين. ومن هنا حاول بعض المحقّقين في آثار الإمام
......المزيد