الخطبة النبوية الشريفة امتدادٌ للقران الكريم

  • 21 - 06 - 2021
  • 8653
بسم الله الرحمن الرحيم الخطابة هي إحدى السُبل المهمة التي انتهجها الرسول الكريم مُحمد (صلى الله عليه وآله السلم) في نشر الدين الإسلامي الحنيف

                ، وذلك عـندما كان يستقبل القبائل العربية في موسم الحج ، لأنًّ الخطابة أرفع فنون القول البشري درجة ، وهي أسمى درجة من الشعر وأرفع ، بدلالة أنَّ الله سبحانه وتعالى ؛ ارتضى لنبيه الكريم مُحمد عليه الصلاة والسلام ؛ أنْ يكون خطيباً ، ولم يرتضِ له ؛ أنْ يكون شاعراً ، ذلك لآنَّ الخطابة تمثلُ منبر علية القوم من الملوك والرؤساء والقادة والفرسان ووجوه المجتمعات والقبائل ، أما الشعر فهو لعامة الناس ؛ يشترك فيه العقلاء والمجانين والحمقى ، مثلما يشترك فيه عـلية القوم وسوقتهم ، فمن هذا المنطلق ؛ كان النبي مُحمد خطيباَ مفوهاً لا يدانيه خطيب ، ولم يكن شاعراَ .

والقرآن الكريم ، هو دستور المسلمين الذي أنزله الله سبحانه على نبيه الكريم ، ليكون دليل عمل للمسلمين في كلِّ عصورهم وأوطانهم ؛ وعلى اختلاف لغاتهم ومشاربهم وألوانهم ، فالقرآن الكريم تشريعٌ يحتاج إلى توضيحٍ في بعض آياته الكريمة وأحكامه ، وهنا يأتي دور الرسول الكريم مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليوضح للمسلمين ما استغلق فهمه عليهم ، وفي أحيان أخرى يأتي القرآن الكريم شاهداً معززاً لأقوال الرسول وأفعاله ، وهنا سأقف على خطبة قصيرة للرسول مُحمد عليه الصلاة والسلام ، لتكون مثالاً تطبيقياً على ما تقدم التمهيد له .

فقد روى الجاحظ (ت 255هـ) أنَّ  رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب بعشر كلمات ، والجاحظ أراد بعشر كلمات ، عشر جمل من باب تسمية الكل باسم الجزء في باب المجاز المرسل ، وهو تعبير بلاغي معروف عند العرب ومشهور ، فقد ارتقى النبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر ،  فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (1) : 

(( أيها الناسُ : إنَّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالِمِكُم (2) ، وإنَّ لكم نهاية ً فانتهوا إلى نهايتِكم ، إنَّ المؤمنََ بينََ مخافتينِِ : بينََ عاجلٍٍ قدْ مضى ، لا يدري ما اللهُ صانعٌ بهِِ ، وبينََ أجلٍٍ قدْ بقى ، لا يدري ما اللهُ قاضٍٍ فيهِِ ، فليأخذْ العبدُ من نفسِهِ لنفسِهِ ، ومن دُنياهُ لآخرتِِهِ ، ومن الشبيبةِ إلى الكبرةِ (3) ، ومن الحياةِِ قبلَ الموتِ ، فَوَالذي نفسُ مُحمدٍ بيدهِ ، ما بعدََ الموتِِ من مُستعتبٍ ، ولا بعدَ الدُنيا من دارٍٍٍ ، إلا الجنة أو النار )) .

المسلمون كافة ؛ القاصي منهم والداني ، وبمختلف أطيافهم  وألوانهم ولغاتهم يعرفون جيداً ، أنَّ أقوال رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله ؛ وما يرتضيه من الأقوال والأفعال هيَ سُنة ، والسُنة النبوية الشريفة تمثل الرافد الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ، الذي يُعد الرافد الأول  لها ، والرسول مُحمد عليه الصلاة والسلام ، لم ينطق ، ولم يتصرف ، إلا بما يرتضيه الله سبحانه وتعالى له ؛ فضلاً عن كونه معصوماً من الخطأ ، ومنزهاً من الخطل ، لذلك قال الله سبحانه وتعالى عنه  في محكم كتابه الكريم : (4) {وما ينطقُ عن الهوى * إنْ هُوَ إلا وحيٌ يُوحى} هاتان الآيتان  الكريمتان تؤكدان  وبما لا يقبل الشك ، أنَّ كلِّ ما نطق به رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو سُنة واجبة التطبيق ، وعلى المسلمين كافة الأخذ بها ، وهم مطمئنون ، وبخلاف ذلك يتحملون إثماً إنْ ناقشوها ، أو رفضوا إتباعها ، ولو جزئياً ، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في هذه الخطبة المباركة رسم مساراً واضحاً لكلِّ مسلم ومسلمة ، وعلى المسلمين والمسلمات كافة ؛ أنْ يلتزموا  بذلك ؛ ولا يتجاوزوه  ، فقد قال الرسول : (أيها الناس : إنَّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم) ، والمَعْلم : هو العلامة الدالة على الطريق الواضح الصحيح ، وهي تعني أنَّ طريق المسلم فيه علامات دالة ، ترشد السائرين فيه إلى الوجهة الصحيحة التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم  للمسلمين ، وإذا لم يلتزم المسلم بتلك العلامات ، فإنَّ طريقه يكون قد انحرف عن الطريق القويم ، وسار بمنْ سلكهُ باتجاه الضلال والضياع ، وقاده بالمحصلة النهائية إلى نهاية مفزعة ومرعبة ، تنتهي به إلى نار جهنم خالداً فيها ، إلا ما شاءَ الله ، والرسول الكريم (ص) يريد في هذا  أنْ يعرفَ  الناسُ أقدارَهم ومقاديرَهم ، ومن معاني المَعْلم البلاغية ، المكانة أو المنزلة التي اختارها الله سبحانه وتعالى للعبد ، وعلى الإنسان ألا يتجاوز ذلك ، فتكون عاقبته وخيمة ، وإنَّ لكلِّ امرئًٍ حدود ، وعليه أنْ يعرفها ، ويقف عندها ، ولا يتجاوزها ، ليظهر أمام الله ، وأمام الناس بحجمه الطبيعي الحقيقي ، فلا يكون صغيراً فيُزدرى ، ولا كبيراً فارغاً ، فيُفتضح أمره أمام المجتمع ، فضلاً عن كونه يُعد منافقاً ،  وعليهِ أنْ يعرف قدره ، ومكانته قبل أنْ يُعَرِفـَهُ الناسُ بحجمه الحقيقي ، وعند ذاك لا ينفع الندم وعض الأنامل ، ولو قرأنا هذا المقطع من الخطبة قراءة ثانية ، لرأينا أنَّ الله سبحانه وتعالى عـندما أراد أنْ يخلق الإنسان ، جمع الملائكة وخاطبهم قائلاً (5) : { إني جاعلٌ في الأرض خليفة } أي أنَّ الله سبحانه لم يخلق الأرض بلا بهدف وبلا جدوى ، بل أراد أنْ تكون حقلاً ؛ وميداناً لتطبيق العدالة السماوية التي يريدها الله أنْ تسود في الأرض ، وخليفة : تعني من ينوب في العمل والقيادة ، فكان الإنسان هو النموذج المثالي لتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض ، وبما أنَّ الإنسان هو النموذج الذي اختاره الله ، فعليه أن يكون هذا المخلوق في أفضل صورة وهيأة فقال تعالى (6) :  {  لقدْ خلقنا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ } ، هذه الآية الكريمة تشمل الناس كافة ، وبما أنَّ الله سبحانه وتعالى اختار من بينهم أفضلهم وأكملهم ، وهم الأنبياء والرسل ، والنبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أكرم الرسل والأنبياء ، لذلك اختاره الله لأنْ يكون خاتماً للأنبياء والمرسلين ، وله الشريعة السمحة الكاملة ، لذا فقد خاطبه الله سبحانه وتعالى قائلاً (7) : { وإنكَ لعلى خـُلُقٍ عظيمٍ}، وهذا المدح الإلهي للرسول مُحمد ، هو تكريم خاص وعام ، فالخاص منهُ ؛ هو لشخص الرسول الأعظم ، والعام هو للمسلمين كافة دون سواهم من الديانات الأخرى ، لأنـَّهُ هو نبيهم المرسل إليهم على وجه الخصوص ،  وبعد أنْ خلق الله الإنسان افترض له  طريق الخير والصلاح ،  ودله على الخير والشرِّ ، وأعطاه العقل والنفس ، وخيره في مساره ، ولم يفرض عليه شيئاً ، وتبعاً لذلك كان على الإنسان أنْ يتحمل تبعة ما تؤول إليه أعماله وأفعاله ، فقد قال تعالى (8) : { ونفسٌ وما سواها * فألهمها فجورَها وتقواها}، ومعلوم أنَّ الفجور هو التمرد والمعصية وعدم طاعة الله ، وهو من النفس التي جُبلِتْ على الخطأ ، وهي التي تقود العبد إلى المعصية والضلال ، فقد قال عزَّ من قال  (9) : { إنَّ النفسَ لأمارة بالسوءِ} ، والتقوى هي من ثمار القلوب والعقول ، فالعقل يمثل الكابح الرادع للنفس الإنسانية ، وهو الآمر الذي يأمرها وينهاها ، فإذا كان العقل أقوى من النفس ، روضها وقادها إلى شاطئ الصلاح والخير ، وصولاً بها إلى الأيمان والالتزام بطاعات الله ، والامتناع عن نواهيه ، وإذا كانت النفس هي المسيطرة على العقل ، فأنها تقود العبد إلى ما لا تـُحمد عقباه من ارتكاب الآثام ، وركوب المعاصي ، والتمرد على التعاليم الصحيحة التي جاء بها الإسلام ، واقتراف النواهي المنكرة التي رفضها الإسلام وقوض أركانها وأبطلها ، واللافت للنظر أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يلزم العباد باعتناق دين معين ، ولكنه كان يحثهم على طاعة الأنبياء والرسل ليجنبهم النهاية المأساوية التي تنتظر المتمردين على تعاليم السماء ، وعدم إتباعهم الأنبياء والرسل ، فقال (10) : { لا إكراهَ في الدينِ فقدْ تبينَ الرُشدِ مِنَ الغَيّ فمن كفرِ بالطاغـُوتِ ويؤمنُ باللهِ فقدْ استمسكَ بالعروةِ الوُثقى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليمٌ } ، أي أنَّ العبدَ مُخيرٌ وغير مُجبر ، وبما أنـَّهُ مُخيرٌ ، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَنَ له طريق الهدى ، وطريق الضلال ، فهو مُخير أيهما يسلك فلنفسه ،  ومن باب الإحاطة الإلهية ورحمة من الله بالإنسان الجهول العجول ، قال تعالى (11) : { إنا هديناهُ السبيلََ ، إما شاكراً وإما كفـُوراً} ، فالشاكر هو المؤمن الذي تمسك بحبل الله ونجى ، والكافر هو الجاحد الذي ابتعد عن رحمة الله فهوى ، وذلك من خلال طاعته لنفسه الأمارة بالسوء ،  وفي الجملة الثانية قال الرسول (عليه الصلاة والسلام) : ( وإنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ) ، الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان ، افترض له العاقبة الحسنة ، والنهاية في الجنة التي خلقها لمن يرتضي أعماله من عباده ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان خلقه في الجنة ، ولكنه أراد منه أنْ يعمر الأرض ، ويعمل فيها صالحاً فأنزلهُ إلى الأرض ، تطبيقاً  لقوله تعالى (12) : { إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة ً}  وعلى الإنسان أنْ يسعى إلى تلك النهاية بالعمل الصالح من خلال الالتزام بتعاليم الإسلام التي جاءت في القرآن الكريم  ، وفي السُنة النبوية الشريفة ، فقد قال الله تعالى (13) : { وإنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سعى } ، وإذا لم يلتزم الإنسان  بذلك ، قادته نفسه إنْ شاءَ أم أبى إلى النهاية المرعبة ، التي تتمثل في النار التي وقودُها الناس والحجارة ، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى (14) : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}  وهي نهاية ٌ لم تكن معدة له سلفاً ، ولكنَّ نفسه المتمردة ؛ الأمارة بالسوء ، ومن خلال عدم التزامها بالطاعات ، وقيامها بارتكاب المعاصي والمنكرات ، هي التي أوصلته إلى هذه النهاية المؤلمة ، ونلحظ هنا أنَّ النبي مُحمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد أنَّ النهاية في غاية الأهمية ، لأنَّ مصير الإنسان معلقٌ بها ، فإذا كانت النهاية ايجابية ، سعدت نفسه ، واستراحت في الجنة ، وإذا كانت ـ لا سامح الله ـ سلبية شقيت وعانت سوء العاقبة ،  وبما أنَّ الإنسان في كلَّ أدوار حياته ، غافل عما يجري حوله ، وما يحيط به من خلال انغماسه بالحياة الدنيا وملذاتها ، فأنه دوماً بحاجة إلى من يذكره بسوء أعماله ، ويرشده إلى الصراط المستقيم ، والله سبحانه وتعالى يُحبُّ عباده ولا يدعهم يضيعون في الحياة الدنيا وملذاتها ؛ فقال (15) :{أيحسبُ الإنسانَ أنْ ُيتركَ سُدى}، ومن أجل ذلك هيأ له الأنبياء والرسل ، وأرسلهم تباعاً وحسب حاجة الناس إليهم ، ليرشدونهم إلى طريق الهدى ، ويصوبوا لهم ما أعوج من مسارات حياتهم ، وينقلونهم من الظلمات إلى النور، من باب لعلَّ العبد يرعوي ويتعظ ، فيثوب إلى رشده ، ويتوب إلى ربه ، فيعمل صالحاً يرضاه الله ، فقال تعالى (16) : { وإنك لتدعوهم إلى صراطٍ مستقيمٍ } المخاطب في هذه الآية الكريمة هو النبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ذلك لآنَّ الله سبحانه وتعالى أرسلهُ رحمة للعالمين ، فقال (17) :{وما أرسلناكَ إلا رحمةً ً للعالمين} ، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، هو المبلغ عبادَ الله ؛ عن الله ، فقال مخاطباً المسلمين  (18) ( إنَّ الله سبحانه وتعالى سيسألُ الإنسانَ :  ألمْ يأتكَ رسولي فبلغكَ ، وآتيتكَ مالاً ، وأفضلتُ عليكَ ؟  فما قدمتَ   لنفسكَ ؟ فينظرْ يمينًا وشمالاً ، فلا يرى شيئًا ، ثم لينظرْ قدامهُ ، فلا يرى غيرَ جهنم )  ولاختصار الطريق أمام العبد المسلم ، وجدنا رسول الله مُحمد (عليه الصلاة والسلام) قد حدد له مسارين لا ثالث لهما ، وهما ( إنَّ المؤمن بين مخافتين ) أي بمعنى بين حدًين ـ  البداية والنهاية ـ وهو بين الحدًين ، لا يعرف موقعه بالتحديد ، وأنَّ رسول الله مُحمد  (عليه الصلاة والسلام) قد أكد هذه الحقيقة بقوله ( بين عاجل قد مضى ، لا يدري ما الله صانع به ، وبين أجل قد بقى ، لا يدري ما الله قاضٍ فيه ) ومما لا شك فيه أنَّ الإنسان لا يعرف ، هل عمله مقبول عند الله أم لا ؟  ولا يعرف ما يترتب على القبول أو الرفض من ثواب أو عقاب ، وهل هو من أصحاب اليمين ؟ أم هو من أصحاب الشمال ؟ وهل يثاب بالجنة ، بعد أنْ يتقبلَ الله أعماله إنْ كانت صالحة مرضية ، أم أنَّ أعماله كانت سلبية ، فعند ذاك ستكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، فتذهبُ هباءً منثوراً ؟ ذلك لأنَّ الأمرَ حينذاك بيد الله وحده ، ولا يعلم خواتيم الأعمال غيره ، وبالمحصلة النهائية يؤول مصيره إلى النار ، فضلا عن أنَّ الإنسان لا يعرف مقدار عمره ، فهو لا يدري ، كم سنة سيعيش ؟ هل هو قصير العمر أم من المُعمرين ؟ ولا يدري ما تضمر له الأيام ، وكيف سيكون قضاء الله فيه ، لأنَّ الإنسان غير مطلع على الغيب ، ولا يدري في أيِّ مكان سيموت ومتى ؟ (19) {وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ} وكذلك هو لا يعرف  مقدار الشطر الذي ذهب من عمره ، وكذلك لا يعرف مقدار الشطر المتبقي من عمره  ، وما سيجري الله عليه ، فيه من أمور ، لأنَّ كلَّ ذلك هو في علم الغيب ، ولا يحيط  به  إلا الله وحده ، لذلك لفت رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر المسلم ( العبد الصالح ) الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وتعالى  ، إلى أنَّ الأعمال المعتبرة عند الله ، هي الأعمال التي يقدمها المؤمن المسلم ، بنفسهِ لنفسهِ ، وليست الأعمال التي تقدم له بالنيابة ، لأن كلَّ نفس تقدم لنفسها ، لا لغيرها ، وأنَّ الإنسان هو الذي سيتحمل وزر أعماله ، حلوها ومرَّها ، وأنَّ العمل والصلاح والاختبار هو في الدار الدُنيا ، فعلى المؤمن أنْ يتزود من الدار الدُنيا ليوم الحساب ، وخير الزاد التقوى ، لأنَّ  الدُنيا  دار عمل بلا حساب ، والآخرة دار حساب وثواب وعقاب ،  لما قدمه الإنسان لنفسه في حياته ،  سواءً كان العمل إيجابياً أم سلبياً ، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى (20) : {  وأنَّ سعيهُ سوفَ يُرى * ثمَ يجزاهُ الجزاءََ الأوفى } ثم أضاف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا : ( من الشبيبةِ إلى الكبرةِ ) أي أنَّ أفضل الأعمال عند الله ، ما قدمها المؤمن كاملة ، وبنشاط وبلا كسل ولا ملل ، فالإنسان في شبابه ، وهو في عنفوان قوته ، يؤدي ما مطلوب منه من العبادات بدقة ، وبصورة مباشرة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر يستطيع المسلم الحاج الشاب القوي ، أنْ يؤدي مناسك الحج كاملة بنفسه من  دون الاعتماد على غيره ومساعدته  ، وعندما يتقدم به العمر ، وتضعف قواه الجسدية ، يحتاج إلى من ينوب عنه في تأدية هذا المنسك أو ذاك ، وبذلك يقل ثوابه وأجره عن الذي يؤدي المناسك بنفسه ، ومصداق ذلك  قول النبي الكريم مُحمد عليه الصلاة والسلام (21) : ( المؤمنُ القويُ خير ٌ، وأحبُ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ )  فعلى العبد المسلم استغلال قوته في مرحلة الشباب ؛ بالعمل الصالح المرضي ليجمع لنفسه رصيداً طيباً من الحسنات ، قبل فوات الأوان ،  ليدرأ بها النقص الذي قد يحصل في مرحلة الشيخوخة والكهولة والعجز، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :  (ومنَ الحياةِ قبلَ الموتِ) والرسول هنا يلفت نظر العبد الصالح إلى أنَّ أعمال المسلم المأداة وهو على قيد الحياة  ، هي التي يعولُ عليها في يوم المحشر والحساب ، وأجرها أكبر بكثير من الثواب التي يأتيه بعد موته ، ذلك لأنَّ الإنسان إذا مات أنقطع عمله ، إلا من ثلاث لسنا بصدد ذكرها ، وهذا يعني توقف عجلة حسناته ؛ إلا ما شاء الله ، لأنَّ الموت هو مسك الختام لأعمال العباد ، ومن ثم أنَّ النبي مُحمداً (عليه الصلاة والسلام) يقسم بالله ، وهو الصادق الأمين على أنَّ الإنسان بعد موته لا يؤخذ منه شيء ، ولا ينظر إليه أحد ، لأنـَّهُ لا عتب ؛ ولا عتاب يوم القيامة ، فالألسُنُ تصمت ، وتكون عاجزة عن النطق ، ويُحشر الإنسان  فرداً كما ولدته أمه ، لا يستطيع أنْ يقدم لنفسه شيئاً ، ولا يستطيع أنْ يدفع عنها شيئاً ، فتأكله الحسرة والندامة على ما فرط في جنب الله ، فيتمنى لو لم يقترف الذنوب ، ويرتكب المعاصي ، ولم يركب السيئات ، وأنْ يُرد إلى الحياة الدُنيا ، ليعمل صالحاً ؛ يرضاه الله سبحانه وتعالى ، ويدرأ به عن نفسه ؛ حرَّ نار جهنم (22): { وهم يصطرخون فيها ربنا إخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} وقوله تعالى (23) :{ فلو أنَّ لنا كرةً فنكونَ من  المؤمنينَ} ثم يختم عليه السلام خطبته قائلاً :( ولا بعدَ الدُنيا من دارٍ إلا الجنة َ أو النار ) فالرسول مُحمد  (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا يؤكد بما لا يقبل الشك ، أنَّ الإنسان إذا مات وعرض في يوم الحساب ، سيؤول مصيره إلى واحدة من اثنتين لا ثالثة لهما : الجنة أو النار، ومعنى ذلك أنَّ الإنسان مرهون بما قدمت يداه لنفسهِ  في الحياة الدُنيا ، فإنْ كان صالحاً ، سيستلم كتابهُ في يمينهِ ، وهو بفضل الله وتوفيقه في الجنة والنعيم ، في عيشة راضية ، وإنْ كان بخلاف ذلك فأمهُ هاوية ، فذلك هو الخسران المبين ، وهو الشقي الذي خسر نفسه ، ولم يقدم لها ما كان يجب أنْ يقدمه لها ، فهو في نار حامية .

وعلى الرغم من قصر الخطبة الشريفة  ، إلا أنـَّها أدت المطلوب منها بنجاح منقطع النظير ، فأوصلت المطلوب منها إلى كلِّ مسلم ومسلمة ، بوضوحٍ لا لبس فيه ، وهذا القصرُ في الخطبة ساعد المسلمين على حفظها لتتداولها الأجيال ،  وحفزهم على الاستفادة منها في حقل التطبيق ، وقد سُئل أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) ، (24)  ( هل كانت العرب تـُطيل ؟ فقال : نعم ليُسمع منها ، قيل فهل كانت تـُوجز ؟ قال : نعم ليُحفظ عنها ) ، فيما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) (25)  : ( يطول الكلام ويُكثر ليُفهم ، ويُوجز ويُختصر  ليُحفظ ) ، وقال الجاحظ (ت 255هـ) (26) : ( وجدنا عدد القصار أكثر ، ورواة العلم إلى حفظها أسرع ) ، والخطبة بصورة عامة مثلت منهجاً ؛ ودليل عمل مستقيم ؛ لمن أراد مرضاة الله ورسوله من خلال العمل الصالح ، ونلحظ أنَّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الخطبة  لم  يعمد إلى السجعة ، وإنْ جاءت ؛ فهي من العفو الخاطر ، وكذلك لم يعمد إلى الصنعة اللفظية أو الرمز والإبهام ، وإنـَّما كان أسلوبه مباشراً وواضحاً ، عمد فيه إلى تصوير الموقف بطريقة تؤثر في نفوس السامعين ، فيخاف من يخاف عذاب الله ، ويطمئن المؤمن إلى مصيره في الجنة والثواب (27)، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يكون في خطبهِ تارة واعظاً ، وتارة أخرى مشرعاً ، إلا أنـَّهُ في هذه الخطبة الشريفة جمع بين الاثنين ، الوعظ والتشريع في نسيج بلاغي رائع .    

وعند إعادة قراءة الخطبة فنياً سنجد أنَّ أبرز سماتها ما يأتي:

  1. متانة التراكيب ؛ وتناغم الألفاظ ، فقد جاءت المفردات في مواضعها الصحيحة مرتبة ً مثل الأعداد ، لا يتقدمُ عددٍ على آخر ولا يتأخر .
  2. قصر الجمل ، فقد جاءت الجمل على نسق واحد من الطول ، وهي من نوع السهل الممتنع .
  3. جزالة الألفاظ ووضوح المعاني ، أي أنَّ المعاني جاءت على قدر الألفاظ ، من دون زيادة أو نقصان ، وهذا من كمال البلاغة .
  4. ظهور معاني القرآن الكريم مبثوثة في أثناء الخطبة ، فقد اشتركت إحدى وعشرين آية ً كريمة في شرح وتحليل هذه الخطبة المباركة .
  5. تميزت لغة الخطبة بكونها لغة ترهيب وترغيب ، وهي اللغة التي تحث المسلم على العمل الصالح بمحض إرادته من غير إكراه .
  6. لقد استخدم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التوكيد في هذه الخطبة ثلاث مرات  من خلال استخدام الحرف المشبه بالفعل ( إنَّ المشددة )  وهي تفيد التوكيد ، ( إنَّ لكم معالم ... ، وإنَّ لكم نهاية ... ، إنَّ المؤمن ... فضلا عن استخدامه  القسم ( فوالذي نفس محمد بيده ...) مما أعطى الخطبة مكانة خاصة ، وأهمية كبيرة في حياة المسلمين المؤمنين 0
  7. على الرغم من قصر الخطبة فقد استخدم النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) حرف الجر (من) أربع مرات  ، وهو من حروف ابتداء الغاية (28) وحرف الجر (اللام) مرتين ، وهي تعني إلى ؛ وحرف الجر (إلى) مرة واحدة ؛ وهي تفيد الانتهاء ؛ وهي أنْ تكون منتهى لابتداء الغاية (29) ، ( من نفسه لنفسه ... ، ومن دُنياه لآخرته ... ، ومن الشبيبة إلى الكبرة ... ، ومن الحياة قبل الموت ...) فالرسول الكريم جعل لكلِّ جملة نقطة شروع وانطلاق باتجاه الهدف وهو الغاية ، والعمل الصالح هنا يمثل الوسيلة التي يسلكها المسلم المؤمن ، ليصل إلى الهدف المنشود ؛ المتمثل بالجنة .
  8. عالجت الخطبة موضوعاً واحداً ، تمثل في  الدعوة إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ، وهو جوهر الإسلام الذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذن ربه ، ليعمر الإنسان الأرض ، وتزدهر الأوطان ، ويعيش الإنسان في أمنٍ  وآمانٍ وسلامٍ  .
  9. قوة التأثير في نفوس السامعين ، بحيث هيأت الخطبة جواً مقارباً لما ينتظر الإنسان في يوم الحساب ، لكي يتخذ الإنسان قراره النهائي في ضوء قناعته ، وبما تمليه عليه إرادته ، فإنْ كان خيراً ؛ فهو خير له ، وإنْ كان شراً ، فوزره عليه ، وعليه أن يتحمل نتيجة قراره .

وختاماً أقول : هذا قدر استطاعتي في فهم خطبة رسول الله مُحمد (عليه الصلاة والسلام ) واستيعابي لها ، فأنْ أصبتُ فيما اجتهدتُ ، فبفضلٍ من الله وتوفيقه ، وإنْ جانبت الصواب فذلك من تلقاء نفسي ، والحمدُ لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خيرته  ؛ من خلقه مُحمدٍ  ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين الكرام ؛ وصحبه الغر الميامين .

 

الهوامش:  

  1. البيان والتبيين : 302 – 303 ، هكذا وردت مقدمة الخطبة 0
  2. المعلم : المكانة والمنزلة ، أو الطريق الواضح البيين
  3. الكبرة : بالفتح الكبر
  4. سورة النجم الآيتان: 52-53
  5. سورة البقرة ؛ الآية : 30
  6. سورة التين الآية : 4
  7. السورة القلم  الآية : 4
  8. سورة الشمس الآيتان: 7-8
  9. سورة يوسف الآية: 53
  10. سورة البقرة الآية : 256
  11. سورة الإنسان الآية : 3
  12. سورة البقرة الآية : 30
  13. سورة النجم الآية: 39
  14. سورة التحريم الآية: 6
  15. سورة المؤمنون الآية: 73
  16. سورة القيامة الآية : 36
  17. سورة الأنبياء  الآية : 107
  18. تاريخ الطبري : 2/55 ، الكامل في التاريخ : 2/ 2554
  19. سورة لقمان الآية : 34
  20. سورة النجم الآيتان : 40-41
  21. صحيح مسلم بشرح النووي : 15/ 315 باب القدر
  22. سورة فاطر الآية : 37
  23. سورة الشعراء الآية : 102
  24. العمدة : 1/86
  25. العمدة : 1/86
  26. البيان والتبيين : 2/7
  27. الأمالي في الأدب الإسلامي : 285
  28. شرح ابن عقيل : 3/15، جامع الدروس : 3/174
  29. شرح ابن عقيل : 3/17

المصادر والمراجع

القرآن الكريم  .

  1. الأمالي في الأدب الإسلامي ـ د . ابتسام مرهون الصفار ،مطبعة دار الحكمة للطباعة والنشر ، بغداد ، 1991م .
  2. البيان والتبيين ـ الجاحظ (ت255هـ) ، تحقيق عبدا لسلام هارون ، 1368هـ 1949م ، مصر .
  3. تاريخ الطبري – لأبي جعفر الطبري ( ت310هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، مصر، (د.ت) .
  4. جامع الدروس ـ الغلاييني ، راجعه د0عبدالمنعم خفاجه ، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت ط 22 ، 1409 هـ - 1989م .
  5. شرح ابن عقيل ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل – محمد محيي الدين عبدالحميد ، مطبعة السعادة بمصر ، ط 14 ، 1385هـ - 1965م ، مصر .
  6. صحيح مسلم بشرح النووي ـ مطبعة دار إحياء التراث العربي ، ط3 ، بيروت ، لبنان ، ( د.ت) .
  7. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ـ لابن رشيق القيرواني (ت456هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ، ط4 ، 1972م ، الأردن .
  8. الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ( ت630هـ) ، 1965م، بيروت .

 

أ.د.عبداللطيف حمودي الطائي                                                                   

                                                            كلية الآداب ـ  جامعة بغداد

 


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد