الخطبة النبوية الشريفة امتدادٌ للقران الكريم
، وذلك عـندما كان يستقبل القبائل العربية في موسم الحج ، لأنًّ الخطابة أرفع فنون القول البشري درجة ، وهي أسمى درجة من الشعر وأرفع ، بدلالة أنَّ الله سبحانه وتعالى ؛ ارتضى لنبيه الكريم مُحمد عليه الصلاة والسلام ؛ أنْ يكون خطيباً ، ولم يرتضِ له ؛ أنْ يكون شاعراً ، ذلك لآنَّ الخطابة تمثلُ منبر علية القوم من الملوك والرؤساء والقادة والفرسان ووجوه المجتمعات والقبائل ، أما الشعر فهو لعامة الناس ؛ يشترك فيه العقلاء والمجانين والحمقى ، مثلما يشترك فيه عـلية القوم وسوقتهم ، فمن هذا المنطلق ؛ كان النبي مُحمد خطيباَ مفوهاً لا يدانيه خطيب ، ولم يكن شاعراَ .
والقرآن الكريم ، هو دستور المسلمين الذي أنزله الله سبحانه على نبيه الكريم ، ليكون دليل عمل للمسلمين في كلِّ عصورهم وأوطانهم ؛ وعلى اختلاف لغاتهم ومشاربهم وألوانهم ، فالقرآن الكريم تشريعٌ يحتاج إلى توضيحٍ في بعض آياته الكريمة وأحكامه ، وهنا يأتي دور الرسول الكريم مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليوضح للمسلمين ما استغلق فهمه عليهم ، وفي أحيان أخرى يأتي القرآن الكريم شاهداً معززاً لأقوال الرسول وأفعاله ، وهنا سأقف على خطبة قصيرة للرسول مُحمد عليه الصلاة والسلام ، لتكون مثالاً تطبيقياً على ما تقدم التمهيد له .
فقد روى الجاحظ (ت 255هـ) أنَّ رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب بعشر كلمات ، والجاحظ أراد بعشر كلمات ، عشر جمل من باب تسمية الكل باسم الجزء في باب المجاز المرسل ، وهو تعبير بلاغي معروف عند العرب ومشهور ، فقد ارتقى النبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (1) :
(( أيها الناسُ : إنَّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالِمِكُم (2) ، وإنَّ لكم نهاية ً فانتهوا إلى نهايتِكم ، إنَّ المؤمنََ بينََ مخافتينِِ : بينََ عاجلٍٍ قدْ مضى ، لا يدري ما اللهُ صانعٌ بهِِ ، وبينََ أجلٍٍ قدْ بقى ، لا يدري ما اللهُ قاضٍٍ فيهِِ ، فليأخذْ العبدُ من نفسِهِ لنفسِهِ ، ومن دُنياهُ لآخرتِِهِ ، ومن الشبيبةِ إلى الكبرةِ (3) ، ومن الحياةِِ قبلَ الموتِ ، فَوَالذي نفسُ مُحمدٍ بيدهِ ، ما بعدََ الموتِِ من مُستعتبٍ ، ولا بعدَ الدُنيا من دارٍٍٍ ، إلا الجنة أو النار )) .
المسلمون كافة ؛ القاصي منهم والداني ، وبمختلف أطيافهم وألوانهم ولغاتهم يعرفون جيداً ، أنَّ أقوال رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله ؛ وما يرتضيه من الأقوال والأفعال هيَ سُنة ، والسُنة النبوية الشريفة تمثل الرافد الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ، الذي يُعد الرافد الأول لها ، والرسول مُحمد عليه الصلاة والسلام ، لم ينطق ، ولم يتصرف ، إلا بما يرتضيه الله سبحانه وتعالى له ؛ فضلاً عن كونه معصوماً من الخطأ ، ومنزهاً من الخطل ، لذلك قال الله سبحانه وتعالى عنه في محكم كتابه الكريم : (4) {وما ينطقُ عن الهوى * إنْ هُوَ إلا وحيٌ يُوحى} هاتان الآيتان الكريمتان تؤكدان وبما لا يقبل الشك ، أنَّ كلِّ ما نطق به رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو سُنة واجبة التطبيق ، وعلى المسلمين كافة الأخذ بها ، وهم مطمئنون ، وبخلاف ذلك يتحملون إثماً إنْ ناقشوها ، أو رفضوا إتباعها ، ولو جزئياً ، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في هذه الخطبة المباركة رسم مساراً واضحاً لكلِّ مسلم ومسلمة ، وعلى المسلمين والمسلمات كافة ؛ أنْ يلتزموا بذلك ؛ ولا يتجاوزوه ، فقد قال الرسول : (أيها الناس : إنَّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم) ، والمَعْلم : هو العلامة الدالة على الطريق الواضح الصحيح ، وهي تعني أنَّ طريق المسلم فيه علامات دالة ، ترشد السائرين فيه إلى الوجهة الصحيحة التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم للمسلمين ، وإذا لم يلتزم المسلم بتلك العلامات ، فإنَّ طريقه يكون قد انحرف عن الطريق القويم ، وسار بمنْ سلكهُ باتجاه الضلال والضياع ، وقاده بالمحصلة النهائية إلى نهاية مفزعة ومرعبة ، تنتهي به إلى نار جهنم خالداً فيها ، إلا ما شاءَ الله ، والرسول الكريم (ص) يريد في هذا أنْ يعرفَ الناسُ أقدارَهم ومقاديرَهم ، ومن معاني المَعْلم البلاغية ، المكانة أو المنزلة التي اختارها الله سبحانه وتعالى للعبد ، وعلى الإنسان ألا يتجاوز ذلك ، فتكون عاقبته وخيمة ، وإنَّ لكلِّ امرئًٍ حدود ، وعليه أنْ يعرفها ، ويقف عندها ، ولا يتجاوزها ، ليظهر أمام الله ، وأمام الناس بحجمه الطبيعي الحقيقي ، فلا يكون صغيراً فيُزدرى ، ولا كبيراً فارغاً ، فيُفتضح أمره أمام المجتمع ، فضلاً عن كونه يُعد منافقاً ، وعليهِ أنْ يعرف قدره ، ومكانته قبل أنْ يُعَرِفـَهُ الناسُ بحجمه الحقيقي ، وعند ذاك لا ينفع الندم وعض الأنامل ، ولو قرأنا هذا المقطع من الخطبة قراءة ثانية ، لرأينا أنَّ الله سبحانه وتعالى عـندما أراد أنْ يخلق الإنسان ، جمع الملائكة وخاطبهم قائلاً (5) : { إني جاعلٌ في الأرض خليفة } أي أنَّ الله سبحانه لم يخلق الأرض بلا بهدف وبلا جدوى ، بل أراد أنْ تكون حقلاً ؛ وميداناً لتطبيق العدالة السماوية التي يريدها الله أنْ تسود في الأرض ، وخليفة : تعني من ينوب في العمل والقيادة ، فكان الإنسان هو النموذج المثالي لتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض ، وبما أنَّ الإنسان هو النموذج الذي اختاره الله ، فعليه أن يكون هذا المخلوق في أفضل صورة وهيأة فقال تعالى (6) : { لقدْ خلقنا الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ } ، هذه الآية الكريمة تشمل الناس كافة ، وبما أنَّ الله سبحانه وتعالى اختار من بينهم أفضلهم وأكملهم ، وهم الأنبياء والرسل ، والنبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أكرم الرسل والأنبياء ، لذلك اختاره الله لأنْ يكون خاتماً للأنبياء والمرسلين ، وله الشريعة السمحة الكاملة ، لذا فقد خاطبه الله سبحانه وتعالى قائلاً (7) : { وإنكَ لعلى خـُلُقٍ عظيمٍ}، وهذا المدح الإلهي للرسول مُحمد ، هو تكريم خاص وعام ، فالخاص منهُ ؛ هو لشخص الرسول الأعظم ، والعام هو للمسلمين كافة دون سواهم من الديانات الأخرى ، لأنـَّهُ هو نبيهم المرسل إليهم على وجه الخصوص ، وبعد أنْ خلق الله الإنسان افترض له طريق الخير والصلاح ، ودله على الخير والشرِّ ، وأعطاه العقل والنفس ، وخيره في مساره ، ولم يفرض عليه شيئاً ، وتبعاً لذلك كان على الإنسان أنْ يتحمل تبعة ما تؤول إليه أعماله وأفعاله ، فقد قال تعالى (8) : { ونفسٌ وما سواها * فألهمها فجورَها وتقواها}، ومعلوم أنَّ الفجور هو التمرد والمعصية وعدم طاعة الله ، وهو من النفس التي جُبلِتْ على الخطأ ، وهي التي تقود العبد إلى المعصية والضلال ، فقد قال عزَّ من قال (9) : { إنَّ النفسَ لأمارة بالسوءِ} ، والتقوى هي من ثمار القلوب والعقول ، فالعقل يمثل الكابح الرادع للنفس الإنسانية ، وهو الآمر الذي يأمرها وينهاها ، فإذا كان العقل أقوى من النفس ، روضها وقادها إلى شاطئ الصلاح والخير ، وصولاً بها إلى الأيمان والالتزام بطاعات الله ، والامتناع عن نواهيه ، وإذا كانت النفس هي المسيطرة على العقل ، فأنها تقود العبد إلى ما لا تـُحمد عقباه من ارتكاب الآثام ، وركوب المعاصي ، والتمرد على التعاليم الصحيحة التي جاء بها الإسلام ، واقتراف النواهي المنكرة التي رفضها الإسلام وقوض أركانها وأبطلها ، واللافت للنظر أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يلزم العباد باعتناق دين معين ، ولكنه كان يحثهم على طاعة الأنبياء والرسل ليجنبهم النهاية المأساوية التي تنتظر المتمردين على تعاليم السماء ، وعدم إتباعهم الأنبياء والرسل ، فقال (10) : { لا إكراهَ في الدينِ فقدْ تبينَ الرُشدِ مِنَ الغَيّ فمن كفرِ بالطاغـُوتِ ويؤمنُ باللهِ فقدْ استمسكَ بالعروةِ الوُثقى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليمٌ } ، أي أنَّ العبدَ مُخيرٌ وغير مُجبر ، وبما أنـَّهُ مُخيرٌ ، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَنَ له طريق الهدى ، وطريق الضلال ، فهو مُخير أيهما يسلك فلنفسه ، ومن باب الإحاطة الإلهية ورحمة من الله بالإنسان الجهول العجول ، قال تعالى (11) : { إنا هديناهُ السبيلََ ، إما شاكراً وإما كفـُوراً} ، فالشاكر هو المؤمن الذي تمسك بحبل الله ونجى ، والكافر هو الجاحد الذي ابتعد عن رحمة الله فهوى ، وذلك من خلال طاعته لنفسه الأمارة بالسوء ، وفي الجملة الثانية قال الرسول (عليه الصلاة والسلام) : ( وإنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ) ، الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان ، افترض له العاقبة الحسنة ، والنهاية في الجنة التي خلقها لمن يرتضي أعماله من عباده ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان خلقه في الجنة ، ولكنه أراد منه أنْ يعمر الأرض ، ويعمل فيها صالحاً فأنزلهُ إلى الأرض ، تطبيقاً لقوله تعالى (12) : { إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة ً} وعلى الإنسان أنْ يسعى إلى تلك النهاية بالعمل الصالح من خلال الالتزام بتعاليم الإسلام التي جاءت في القرآن الكريم ، وفي السُنة النبوية الشريفة ، فقد قال الله تعالى (13) : { وإنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سعى } ، وإذا لم يلتزم الإنسان بذلك ، قادته نفسه إنْ شاءَ أم أبى إلى النهاية المرعبة ، التي تتمثل في النار التي وقودُها الناس والحجارة ، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى (14) : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} وهي نهاية ٌ لم تكن معدة له سلفاً ، ولكنَّ نفسه المتمردة ؛ الأمارة بالسوء ، ومن خلال عدم التزامها بالطاعات ، وقيامها بارتكاب المعاصي والمنكرات ، هي التي أوصلته إلى هذه النهاية المؤلمة ، ونلحظ هنا أنَّ النبي مُحمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد أنَّ النهاية في غاية الأهمية ، لأنَّ مصير الإنسان معلقٌ بها ، فإذا كانت النهاية ايجابية ، سعدت نفسه ، واستراحت في الجنة ، وإذا كانت ـ لا سامح الله ـ سلبية شقيت وعانت سوء العاقبة ، وبما أنَّ الإنسان في كلَّ أدوار حياته ، غافل عما يجري حوله ، وما يحيط به من خلال انغماسه بالحياة الدنيا وملذاتها ، فأنه دوماً بحاجة إلى من يذكره بسوء أعماله ، ويرشده إلى الصراط المستقيم ، والله سبحانه وتعالى يُحبُّ عباده ولا يدعهم يضيعون في الحياة الدنيا وملذاتها ؛ فقال (15) :{أيحسبُ الإنسانَ أنْ ُيتركَ سُدى}، ومن أجل ذلك هيأ له الأنبياء والرسل ، وأرسلهم تباعاً وحسب حاجة الناس إليهم ، ليرشدونهم إلى طريق الهدى ، ويصوبوا لهم ما أعوج من مسارات حياتهم ، وينقلونهم من الظلمات إلى النور، من باب لعلَّ العبد يرعوي ويتعظ ، فيثوب إلى رشده ، ويتوب إلى ربه ، فيعمل صالحاً يرضاه الله ، فقال تعالى (16) : { وإنك لتدعوهم إلى صراطٍ مستقيمٍ } المخاطب في هذه الآية الكريمة هو النبي مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ذلك لآنَّ الله سبحانه وتعالى أرسلهُ رحمة للعالمين ، فقال (17) :{وما أرسلناكَ إلا رحمةً ً للعالمين} ، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، هو المبلغ عبادَ الله ؛ عن الله ، فقال مخاطباً المسلمين (18) ( إنَّ الله سبحانه وتعالى سيسألُ الإنسانَ : ألمْ يأتكَ رسولي فبلغكَ ، وآتيتكَ مالاً ، وأفضلتُ عليكَ ؟ فما قدمتَ لنفسكَ ؟ فينظرْ يمينًا وشمالاً ، فلا يرى شيئًا ، ثم لينظرْ قدامهُ ، فلا يرى غيرَ جهنم ) ولاختصار الطريق أمام العبد المسلم ، وجدنا رسول الله مُحمد (عليه الصلاة والسلام) قد حدد له مسارين لا ثالث لهما ، وهما ( إنَّ المؤمن بين مخافتين ) أي بمعنى بين حدًين ـ البداية والنهاية ـ وهو بين الحدًين ، لا يعرف موقعه بالتحديد ، وأنَّ رسول الله مُحمد (عليه الصلاة والسلام) قد أكد هذه الحقيقة بقوله ( بين عاجل قد مضى ، لا يدري ما الله صانع به ، وبين أجل قد بقى ، لا يدري ما الله قاضٍ فيه ) ومما لا شك فيه أنَّ الإنسان لا يعرف ، هل عمله مقبول عند الله أم لا ؟ ولا يعرف ما يترتب على القبول أو الرفض من ثواب أو عقاب ، وهل هو من أصحاب اليمين ؟ أم هو من أصحاب الشمال ؟ وهل يثاب بالجنة ، بعد أنْ يتقبلَ الله أعماله إنْ كانت صالحة مرضية ، أم أنَّ أعماله كانت سلبية ، فعند ذاك ستكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، فتذهبُ هباءً منثوراً ؟ ذلك لأنَّ الأمرَ حينذاك بيد الله وحده ، ولا يعلم خواتيم الأعمال غيره ، وبالمحصلة النهائية يؤول مصيره إلى النار ، فضلا عن أنَّ الإنسان لا يعرف مقدار عمره ، فهو لا يدري ، كم سنة سيعيش ؟ هل هو قصير العمر أم من المُعمرين ؟ ولا يدري ما تضمر له الأيام ، وكيف سيكون قضاء الله فيه ، لأنَّ الإنسان غير مطلع على الغيب ، ولا يدري في أيِّ مكان سيموت ومتى ؟ (19) {وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ} وكذلك هو لا يعرف مقدار الشطر الذي ذهب من عمره ، وكذلك لا يعرف مقدار الشطر المتبقي من عمره ، وما سيجري الله عليه ، فيه من أمور ، لأنَّ كلَّ ذلك هو في علم الغيب ، ولا يحيط به إلا الله وحده ، لذلك لفت رسول الله مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر المسلم ( العبد الصالح ) الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وتعالى ، إلى أنَّ الأعمال المعتبرة عند الله ، هي الأعمال التي يقدمها المؤمن المسلم ، بنفسهِ لنفسهِ ، وليست الأعمال التي تقدم له بالنيابة ، لأن كلَّ نفس تقدم لنفسها ، لا لغيرها ، وأنَّ الإنسان هو الذي سيتحمل وزر أعماله ، حلوها ومرَّها ، وأنَّ العمل والصلاح والاختبار هو في الدار الدُنيا ، فعلى المؤمن أنْ يتزود من الدار الدُنيا ليوم الحساب ، وخير الزاد التقوى ، لأنَّ الدُنيا دار عمل بلا حساب ، والآخرة دار حساب وثواب وعقاب ، لما قدمه الإنسان لنفسه في حياته ، سواءً كان العمل إيجابياً أم سلبياً ، وذلك تطبيقاً لقوله تعالى (20) : { وأنَّ سعيهُ سوفَ يُرى * ثمَ يجزاهُ الجزاءََ الأوفى } ثم أضاف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا : ( من الشبيبةِ إلى الكبرةِ ) أي أنَّ أفضل الأعمال عند الله ، ما قدمها المؤمن كاملة ، وبنشاط وبلا كسل ولا ملل ، فالإنسان في شبابه ، وهو في عنفوان قوته ، يؤدي ما مطلوب منه من العبادات بدقة ، وبصورة مباشرة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر يستطيع المسلم الحاج الشاب القوي ، أنْ يؤدي مناسك الحج كاملة بنفسه من دون الاعتماد على غيره ومساعدته ، وعندما يتقدم به العمر ، وتضعف قواه الجسدية ، يحتاج إلى من ينوب عنه في تأدية هذا المنسك أو ذاك ، وبذلك يقل ثوابه وأجره عن الذي يؤدي المناسك بنفسه ، ومصداق ذلك قول النبي الكريم مُحمد عليه الصلاة والسلام (21) : ( المؤمنُ القويُ خير ٌ، وأحبُ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ ) فعلى العبد المسلم استغلال قوته في مرحلة الشباب ؛ بالعمل الصالح المرضي ليجمع لنفسه رصيداً طيباً من الحسنات ، قبل فوات الأوان ، ليدرأ بها النقص الذي قد يحصل في مرحلة الشيخوخة والكهولة والعجز، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ومنَ الحياةِ قبلَ الموتِ) والرسول هنا يلفت نظر العبد الصالح إلى أنَّ أعمال المسلم المأداة وهو على قيد الحياة ، هي التي يعولُ عليها في يوم المحشر والحساب ، وأجرها أكبر بكثير من الثواب التي يأتيه بعد موته ، ذلك لأنَّ الإنسان إذا مات أنقطع عمله ، إلا من ثلاث لسنا بصدد ذكرها ، وهذا يعني توقف عجلة حسناته ؛ إلا ما شاء الله ، لأنَّ الموت هو مسك الختام لأعمال العباد ، ومن ثم أنَّ النبي مُحمداً (عليه الصلاة والسلام) يقسم بالله ، وهو الصادق الأمين على أنَّ الإنسان بعد موته لا يؤخذ منه شيء ، ولا ينظر إليه أحد ، لأنـَّهُ لا عتب ؛ ولا عتاب يوم القيامة ، فالألسُنُ تصمت ، وتكون عاجزة عن النطق ، ويُحشر الإنسان فرداً كما ولدته أمه ، لا يستطيع أنْ يقدم لنفسه شيئاً ، ولا يستطيع أنْ يدفع عنها شيئاً ، فتأكله الحسرة والندامة على ما فرط في جنب الله ، فيتمنى لو لم يقترف الذنوب ، ويرتكب المعاصي ، ولم يركب السيئات ، وأنْ يُرد إلى الحياة الدُنيا ، ليعمل صالحاً ؛ يرضاه الله سبحانه وتعالى ، ويدرأ به عن نفسه ؛ حرَّ نار جهنم (22): { وهم يصطرخون فيها ربنا إخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} وقوله تعالى (23) :{ فلو أنَّ لنا كرةً فنكونَ من المؤمنينَ} ثم يختم عليه السلام خطبته قائلاً :( ولا بعدَ الدُنيا من دارٍ إلا الجنة َ أو النار ) فالرسول مُحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا يؤكد بما لا يقبل الشك ، أنَّ الإنسان إذا مات وعرض في يوم الحساب ، سيؤول مصيره إلى واحدة من اثنتين لا ثالثة لهما : الجنة أو النار، ومعنى ذلك أنَّ الإنسان مرهون بما قدمت يداه لنفسهِ في الحياة الدُنيا ، فإنْ كان صالحاً ، سيستلم كتابهُ في يمينهِ ، وهو بفضل الله وتوفيقه في الجنة والنعيم ، في عيشة راضية ، وإنْ كان بخلاف ذلك فأمهُ هاوية ، فذلك هو الخسران المبين ، وهو الشقي الذي خسر نفسه ، ولم يقدم لها ما كان يجب أنْ يقدمه لها ، فهو في نار حامية .
وعلى الرغم من قصر الخطبة الشريفة ، إلا أنـَّها أدت المطلوب منها بنجاح منقطع النظير ، فأوصلت المطلوب منها إلى كلِّ مسلم ومسلمة ، بوضوحٍ لا لبس فيه ، وهذا القصرُ في الخطبة ساعد المسلمين على حفظها لتتداولها الأجيال ، وحفزهم على الاستفادة منها في حقل التطبيق ، وقد سُئل أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) ، (24) ( هل كانت العرب تـُطيل ؟ فقال : نعم ليُسمع منها ، قيل فهل كانت تـُوجز ؟ قال : نعم ليُحفظ عنها ) ، فيما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) (25) : ( يطول الكلام ويُكثر ليُفهم ، ويُوجز ويُختصر ليُحفظ ) ، وقال الجاحظ (ت 255هـ) (26) : ( وجدنا عدد القصار أكثر ، ورواة العلم إلى حفظها أسرع ) ، والخطبة بصورة عامة مثلت منهجاً ؛ ودليل عمل مستقيم ؛ لمن أراد مرضاة الله ورسوله من خلال العمل الصالح ، ونلحظ أنَّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الخطبة لم يعمد إلى السجعة ، وإنْ جاءت ؛ فهي من العفو الخاطر ، وكذلك لم يعمد إلى الصنعة اللفظية أو الرمز والإبهام ، وإنـَّما كان أسلوبه مباشراً وواضحاً ، عمد فيه إلى تصوير الموقف بطريقة تؤثر في نفوس السامعين ، فيخاف من يخاف عذاب الله ، ويطمئن المؤمن إلى مصيره في الجنة والثواب (27)، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يكون في خطبهِ تارة واعظاً ، وتارة أخرى مشرعاً ، إلا أنـَّهُ في هذه الخطبة الشريفة جمع بين الاثنين ، الوعظ والتشريع في نسيج بلاغي رائع .
وعند إعادة قراءة الخطبة فنياً سنجد أنَّ أبرز سماتها ما يأتي:
- متانة التراكيب ؛ وتناغم الألفاظ ، فقد جاءت المفردات في مواضعها الصحيحة مرتبة ً مثل الأعداد ، لا يتقدمُ عددٍ على آخر ولا يتأخر .
- قصر الجمل ، فقد جاءت الجمل على نسق واحد من الطول ، وهي من نوع السهل الممتنع .
- جزالة الألفاظ ووضوح المعاني ، أي أنَّ المعاني جاءت على قدر الألفاظ ، من دون زيادة أو نقصان ، وهذا من كمال البلاغة .
- ظهور معاني القرآن الكريم مبثوثة في أثناء الخطبة ، فقد اشتركت إحدى وعشرين آية ً كريمة في شرح وتحليل هذه الخطبة المباركة .
- تميزت لغة الخطبة بكونها لغة ترهيب وترغيب ، وهي اللغة التي تحث المسلم على العمل الصالح بمحض إرادته من غير إكراه .
- لقد استخدم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التوكيد في هذه الخطبة ثلاث مرات من خلال استخدام الحرف المشبه بالفعل ( إنَّ المشددة ) وهي تفيد التوكيد ، ( إنَّ لكم معالم ... ، وإنَّ لكم نهاية ... ، إنَّ المؤمن ... فضلا عن استخدامه القسم ( فوالذي نفس محمد بيده ...) مما أعطى الخطبة مكانة خاصة ، وأهمية كبيرة في حياة المسلمين المؤمنين 0
- على الرغم من قصر الخطبة فقد استخدم النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) حرف الجر (من) أربع مرات ، وهو من حروف ابتداء الغاية (28) وحرف الجر (اللام) مرتين ، وهي تعني إلى ؛ وحرف الجر (إلى) مرة واحدة ؛ وهي تفيد الانتهاء ؛ وهي أنْ تكون منتهى لابتداء الغاية (29) ، ( من نفسه لنفسه ... ، ومن دُنياه لآخرته ... ، ومن الشبيبة إلى الكبرة ... ، ومن الحياة قبل الموت ...) فالرسول الكريم جعل لكلِّ جملة نقطة شروع وانطلاق باتجاه الهدف وهو الغاية ، والعمل الصالح هنا يمثل الوسيلة التي يسلكها المسلم المؤمن ، ليصل إلى الهدف المنشود ؛ المتمثل بالجنة .
- عالجت الخطبة موضوعاً واحداً ، تمثل في الدعوة إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ، وهو جوهر الإسلام الذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذن ربه ، ليعمر الإنسان الأرض ، وتزدهر الأوطان ، ويعيش الإنسان في أمنٍ وآمانٍ وسلامٍ .
- قوة التأثير في نفوس السامعين ، بحيث هيأت الخطبة جواً مقارباً لما ينتظر الإنسان في يوم الحساب ، لكي يتخذ الإنسان قراره النهائي في ضوء قناعته ، وبما تمليه عليه إرادته ، فإنْ كان خيراً ؛ فهو خير له ، وإنْ كان شراً ، فوزره عليه ، وعليه أن يتحمل نتيجة قراره .
وختاماً أقول : هذا قدر استطاعتي في فهم خطبة رسول الله مُحمد (عليه الصلاة والسلام ) واستيعابي لها ، فأنْ أصبتُ فيما اجتهدتُ ، فبفضلٍ من الله وتوفيقه ، وإنْ جانبت الصواب فذلك من تلقاء نفسي ، والحمدُ لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خيرته ؛ من خلقه مُحمدٍ ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين الكرام ؛ وصحبه الغر الميامين .
الهوامش:
- البيان والتبيين : 302 – 303 ، هكذا وردت مقدمة الخطبة 0
- المعلم : المكانة والمنزلة ، أو الطريق الواضح البيين
- الكبرة : بالفتح الكبر
- سورة النجم الآيتان: 52-53
- سورة البقرة ؛ الآية : 30
- سورة التين الآية : 4
- السورة القلم الآية : 4
- سورة الشمس الآيتان: 7-8
- سورة يوسف الآية: 53
- سورة البقرة الآية : 256
- سورة الإنسان الآية : 3
- سورة البقرة الآية : 30
- سورة النجم الآية: 39
- سورة التحريم الآية: 6
- سورة المؤمنون الآية: 73
- سورة القيامة الآية : 36
- سورة الأنبياء الآية : 107
- تاريخ الطبري : 2/55 ، الكامل في التاريخ : 2/ 2554
- سورة لقمان الآية : 34
- سورة النجم الآيتان : 40-41
- صحيح مسلم بشرح النووي : 15/ 315 باب القدر
- سورة فاطر الآية : 37
- سورة الشعراء الآية : 102
- العمدة : 1/86
- العمدة : 1/86
- البيان والتبيين : 2/7
- الأمالي في الأدب الإسلامي : 285
- شرح ابن عقيل : 3/15، جامع الدروس : 3/174
- شرح ابن عقيل : 3/17
المصادر والمراجع
القرآن الكريم .
- الأمالي في الأدب الإسلامي ـ د . ابتسام مرهون الصفار ،مطبعة دار الحكمة للطباعة والنشر ، بغداد ، 1991م .
- البيان والتبيين ـ الجاحظ (ت255هـ) ، تحقيق عبدا لسلام هارون ، 1368هـ 1949م ، مصر .
- تاريخ الطبري – لأبي جعفر الطبري ( ت310هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، مصر، (د.ت) .
- جامع الدروس ـ الغلاييني ، راجعه د0عبدالمنعم خفاجه ، منشورات المكتبة العصرية ، بيروت ط 22 ، 1409 هـ - 1989م .
- شرح ابن عقيل ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل – محمد محيي الدين عبدالحميد ، مطبعة السعادة بمصر ، ط 14 ، 1385هـ - 1965م ، مصر .
- صحيح مسلم بشرح النووي ـ مطبعة دار إحياء التراث العربي ، ط3 ، بيروت ، لبنان ، ( د.ت) .
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ـ لابن رشيق القيرواني (ت456هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ، ط4 ، 1972م ، الأردن .
- الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ( ت630هـ) ، 1965م، بيروت .
أ.د.عبداللطيف حمودي الطائي
كلية الآداب ـ جامعة بغداد