حقوق المواطنة في القرآن الكريم‏ (الجزء الأول)

  • 23 - 06 - 2021
  • 25865
يُتهم الإسلام من جهات متعددة بالتعسف وكبت الحريات وعدم المبالاة بالحقوق المدنية لمواطنيه وتركيزه على الجانب الديني أو الروحي فقط في حياة الإنسان ،

 ويأتي هذا الكيل من التهم من أعداء الإسلام تارة ومن بعض أبنائه تارة ‏أخرى . وإذا كانت دوافع المعسكر الأول معروفة ، فإن دوافع ابناء الإسلام ‏المتنكرين لمبادئه بحاجة إلى الفحص والتدقيق لإزالة بعض اللبس والارتباك ‏الذي يعيشه أبناء الأمة في تعاملهم مع واقع الإسلام الحضاري والفكري .‏

‏  فقد خلّف طول عهد الظلم والفشل السياسي الذي تعيشه الأمة منذ قرون مديدة ‏شعورا بالخيبة والإحباط لدى الكثيرين من أبنائها فراح بعضهم بغفلة أو سوء ‏قصد يحمّل الإسلام ومنظومته الفكرية والعقائدية مسؤولية الفشل ،  وغرق ‏البعض  في حيرة واضطراب فأخذ يبحث عن نظرية سياسية يمكن أن يركن ‏إليها ويطبقها في الحياة العامة لعلها تنقذنا من واقعنا السياسي المتردي ، ‏فاستهواه ما نجحت بعض الأمم في تطبيقه فهرع يمينا وشمالا يأخذ من هذا ‏ويستعير من ذاك ، وشاع لدى عامة الناس القول بأن الكافر العادل خير من ‏المسلم الجائر ، حتى صاروا يتطلعون إلى قوى وأنظمة الغرب والشرق ‏لإنقاذهم مما هم فيه ، بعد أن أغرتهم بعض مظاهر المساواة والرخاء والتنظيم ‏فيها ، وفاتهم أن الكفر والعدل لا يستقيمان أبدا ، وان علاج هذه الأمة يجب أن ‏يكون من داخلها .‏
‏    وقد دفعَنا اليأسُ من صلاح شئوننا ، إلى طرفي نقيض ، الطرف الأول ‏تمثل باتجاهين ؛ الأول مفرِطٌ في الاغتراب عن منابع الأمة ، لاهثٌ وراء ‏المادة ومبالغٌ في الارتماء في الملذات والإقبال على مظاهر الترف المادي إذا ‏ما واتته الظروف ، هاجرٌ للدين ومحمّلٌ إياه مسؤولية الخراب . والاتجاه الثاني ‏مفرِط في النكوص عن الحياة ومبالغ في الزهد والتصّوف الشكلي الذي تحول ‏إلى عدم اكتراث بأمر الجماعة وانطواءٍ على الذات لإيمانه بثنائية ( الدين ‏والدنيا ) كنقيضين لا يمكن الجمع بينهما !!  وقد غفل عن حقيقة إن الدنيا ‏المذمومة في الإسلام هي التي تقوم بديلا عن الدين ، أما الدنيا التي تكون ممرا ‏للدين و مزرعةً للآخرة ومتعاضدة معهما فتلك مما يبتغيه الإسلام ويسعى ‏لإقامته . فهل يمكن الوصول إلى أيّة أرضٍ عبر ممرٍّ  فاسد ؟ وهل يمكن ‏اجتناء أيّة ثمرة من مزرعة خربة ؟! ‏
‏   أما الطرف الثاني من النقيضين فقد ظهر جليا في النزعة السلفية المناهضة ‏لتقدّم الحياة ، المنادية بالرجوع إلى أدوات وآليات متعارضة مع روح التغيير ‏والتطوّر التي تحكم الوجود برمته ، وهو ما أنتج  التطرف والغلوّ في معالجة ‏مشاكل المجتمع بالقسر والعنف والإرهاب والوسائل البالية ، وذلك ما نراه لدى ‏المجموعات والتنظيمات الأصولية و السلفية الراديكالية المتشددة التي أعلنت ‏الحرب على الجميع . ‏
ولأن القرآن الكريم هو الأصل الأول في التشريع والعقيدة والفكر لدى المسلمين ‏، ولقطعية ثبوته ، فمن الطبيعي والحتمي أن يكون هو المقصد الأول للباحثين ‏للتعرف على نظرية الإسلام في كل شيء ومنها نظريته في أسس الاجتماع ‏الإنساني وتكوين الدولة وحقوق المواطنين فيها ، و من هذه القاعدة انطلق هذا ‏البحث القرآني . ‏
تعريف المواطنة وأسسها في الإسلام  : ‏
‏    الوَطَنُ هو المَنْزِلُ تقيم به وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله والجمع أَوْطان ، ‏وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً ‏يقيم فيها ، والمِيطانُ الموضع الذي يُوَطَّنُ لترسل منه الخيل في السِّباق ، وفي ‏صفته ‏ ‏ إنه كان لا يُوطِنُ الأَماكن أََي لا يتخذ لنفسه مجلساً يُعْرَفُ به ، ‏والمَوْطِنُ المَشْهَدُ من مَشَاهد الحرب وفي التنزيل العزيز: (( لقد نصَركُمُ اللهُ في ‏مَوَاطن كثيرة )) (‏ ‏) ، و أَوطَنْتُ الأَرض ووَطَّنْتُها تَوطِيناً واسْتَوْطَنْتُها أَي ‏اتخذتها وَطَناً وكذلك الاتِّطانُ ، وواطنَهُ على الأَمر أَضمر فعله معه فإن أَراد ‏معنى وافقه قال واطأَه ، تقول واطنْتُ فلاناً على هذا الأَمر إذا جعلتما في ‏أَنفسكما أَن تفعلاه وتَوْطِينُ النفس على الشيء كالتمهيد ، و وَطَّنَ نفسَهُ على ‏الشيء وله فتَوَطَّنَتْ حملها عليه فتحَمَّلَتْ وذَلَّتْ له ، وقيل وَطَّنَ نفسه على ‏الشيء وله فتَوَطَّنَت حملها عليه . (‏ ‏) ‏
‏   وأجد فيما ذكره صاحب اللسان معاني جيدة ومشجعة في أن أقول إن مفهوم ‏المواطنة يقوم على مبدأين الأول هو التوطن أي : أن يكون الإنسان مشاركا ‏للآخرين في النزول والسكن في وطن مشترك ، والثاني هو التوطين بمعنى ‏التمهيد والموافقة وحمل النفس على تقبّل الآخرين !   فالمواطنة هي :  مكانة ، ‏أو علاقة اجتماعية تقوم بين الفرد والمجتمع السياسي  الذي يعيش فيه ، يتولد ‏منها شعور بالانتماء و الولاء للوطن و الدولة والشعب ، وينتج عنها  خضوع ‏حركته – أي المواطن – لضابط الحقوق والواجبات العامة ،  ضامنا إن ذلك ‏الانتماء هو مصدر الإشباع للحاجات الأساسية ، وقد عرّفت دائرة المعارف ‏البريطانية الموطنة بأنها :( علاقة بين الفرد والدولة ، كما يحددها قانون تلك ‏الدولة، بما تتضمنه من حقوق متبادلة في تلك الدولة ) . ‏
‏   وقد استعمل القرآن الكريم ومن ثُمّ المسلمون مصطلحين آخرين لم يكونا ‏غريبين في أصلهما إذا لم يكونا أوسع وأدق للتعبير عن مفهوم الدولة ‏والمواطنة على التعاقب وهما : ( الأمّة ) و ( المسلم ) . والحق إن استعمال ‏مصطلح ( الأمّة ) بديلا أو رديفا لمصطلح ( الدولة ) أضاف مجموعة من القيم ‏والاعتبارات الإنسانية والحضارية العابرة لنطاق القبيلة والعرق والجنس ‏والسلطة ، أضافها إلى مفهوم الدولة . ومثل ذلك فعل مصطلح ( المسلم ) ‏البديل أو الرديف لمصطلح ( المواطن ) ، فوصفُ الإنسان بالمسلم كان يعني ‏تلقائيا حصوله على التكريم والحقوق التي ضمنها الإسلام لجميع أبنائه ، كما إن ‏معرفة الإنسان بأن هذا الوصف ( المسلم ) هو وصف إلهي جاء على لسان ‏أنبيائه ، يجعله أكثر حماسة للالتزام بفحواه ، قال تعالى : (( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ‏حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا ‏شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ ‏الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ )) (‏ ‏)  ومع كل هذا الثراء الذي يقدمه هذان المصطلحان ‏نجد إن الإسلام التفت ومنذ اليوم الأول إلى سد أيّة ثغرة يمكن أن ينفذ منها أيُّ ‏أحد للتشكيك ببنائه النظري الاجتماعي والسياسي المبرم من خلال إثارة مسألة ‏أوضاع الشعوب غير المسلمة التي تعيش في كنف الأمة ( الدولة ) الإسلامية ، ‏فجاء بفتح فريد وغير مسبوق هو الآخر بإبداعه لمصطلح ( أهل الذمة ) الذي ‏كفل جميع الحقوق المدنية لغير المسلمين بعدّهم مواطنين أصليين في الدولة الأم ‏، وذلك ما نصت عليه أول وثيقة سياسية في تأريخ الإسلام وهي (  وثيقة ‏المدينة ) . وهذا ما أكّده القرآن الكريم بقوله : (( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ‏وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ ‏رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )) (‏ ‏) وأعاد تأكيده بقوله : (( إِنَّ الَّذِينَ ‏آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ ‏صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )) . (‏ ‏) ، فالمتساوون في الحق الديني ‏أولى بالتساوي في الحق المدني ، وهذا ما أكدّه رسول الله ‏ ‏ في بناءٍ وتأسيسٍ ‏حضاري ومدني قد يجد بعض من ضاق بهم الأفق فلم يبصروا الحقيقة أنه ‏تأسيس مدني غريب عن الدين وأطروحته ، وما علموا إن من أسمى أهداف ‏الدين هو إقامة الحياة المتمدنة المزدهرة و العادلة على هذا الكوكب ، والذي ‏يقرأ هذه النصوص السياسية التي كتبها رسول الله ‏ ‏ لشعب الجزيرة – بل ‏للعالم كلّه- بمختلف أديانه وأعراقه يقف مذهولا أمام ذلك الفكر الخلّاق وتلك ‏الروح السامقة التي جاء بها الإسلام ورسوله العظيم ، ومن تلك النصوص هذا ‏الكتاب :  (بسم اللّه الرحّمن الرّحيم ، وبه العون ، هذا كتاب كتبه محمّد بن ‏عبد اللّه إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً ، ومؤتمناً على وديعة اللّه في ‏خلقه لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل ، وكان اللّه عزيزاً حكيماً ، ‏كتبه لأهل ملّته ، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ‏ومغاربها ، قريبها وبعيدها ، فصيحها وعجميّها ، معروفها و مجهولها ، كتاباً ‏جعله لهم عهداً ، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره ، وتعدّى ما أمره ‏كان لعهد اللّه ناكثاً ، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ ، وللّعنته مستوجباً ، ‏سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين ، وإن احتمى راهب أو سائح في ‏جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون ‏من ورائهم ذابّ عنهم ، من كلّ عدة لهم ، بنفسي وأعواني ، وأهل ملّتي ‏وأتباعي ، كأنّهم رعيّتي ، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي ‏تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ‏ولا إكراه على شيء من ذلك ، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من ‏رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ...) (‏ ‏)   ‏
‏    إن مبدأ المواطنة يقوم من أساسه على حاجة الفرد للتمتع بمزايا الانتماء ‏للجماعة و حمايتها وحاجة الجماعة للتمتع بولاء الأفراد وخدماتهم بما يضمن ‏الحرية والمساواة لهم جميعاً  . لكن الأمر ليس سهلا  كما يبدو في هذا التنظير ‏، وربما يكون ذلك هو الذي دفع مفكرا كبيراً مثل روسو (‏ ‏) لأن يطرح هذا ‏السؤال الجوهري : كيف السبيل إلى إقامة حالة اجتماعية يتحقق فيها أولا ، ‏حماية متساوية لجميع المواطنين ، وثانيا ، حرية مضمونة لجميع الأفراد ، ‏وبحث ذلك في كتابه ( العقد الاجتماعي ) وخلص إلى إن الحل يكمن في ( ‏تنازل الفرد عن شخصيته وعن جميع حقوقه لمجتمعه ، وإنه يجب على كل من ‏يريد أن يكون مواطنا أن يرضى بوضع شخصه وكل سلطته تحت إدارة الإرادة ‏العامة ، وعندما يقوم كل فرد من أفراد المجتمع بذلك تتكون الهيئة الاجتماعية ‏التي تكون فيها جميع الأوضاع متساوية بين أفراد هذه الهيئة ) (‏ ‏) ‏
‏    وقد بحث المفكرون في أسباب نشوء الدولة منذ زمن الإغريق حتى وقتنا ‏الراهن وكانت نظرياتهم تتطور وتختلف بحسب خلفياتهم الفكرية والدينية ، ‏وكذلك بحسب الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشوها . ‏
والمستطلع لآراء ونظريات علماء الاجتماع والفلاسفة في أسباب نشوء الدول ‏والمجتمعات وحقوق المواطنين فيها يجد إنها تدور حول نظرية العقد ‏الاجتماعي مع اختلافهم في تفسير دواعي ذلك العقد . فقد قال توماس هوبز (‏ ‏) ‏‏: إن الناس ميّالون بالطبع إلى التنازع والتناحر وهو أمر مؤذٍ  لم يصبر عليه ‏الناس طويلا فسعوا إلى النجاة من مزالق رغائبهم من خلال اتفاقهم على أن ‏يتنازلوا جميعا عن حريّاتهم الطبيعية لسلطة تخيفهم جميعا ، وهذا ما عرّضه ‏للانتقاد اللاذع لأنه أخضع الجميع لإرادة الحاكم ولا يمكن للناس أن يرضوا ‏بهذا الخضوع الأعمى ، فقال جون لوك (‏ ‏) إن هذه الحقوق أكبر من أن ‏يمتلكها أي إنسان ، والأحرى بالناس أن يوجدوا عقدا يعطي للحاكم حقوقا كما ‏يفرض عليه واجبات وقد عاشت نظرية العقد الاجتماعي عدة قرون و ما زالت ‏تحتفظ ببريقها لحد الآن ، وقد كان آخر من تعهدها هو روسو . ونظرية العقد ‏الاجتماعي على أيّة حال نظرية سطحية وتفسيرها للعلاقة بين الإنسان ‏والحكومة متهالك ، فالحكومة في نظر هوبز أهون الشرّين ، ويتقبل الإنسان ‏شر الحكومة ليتفادى شر الطبيعة - طبيعته هو أو طبيعة الآخرين أو طبيعة ‏بيئته - وطبيعة الإنسان بنظره ليست طبيعة اجتماعية وإنما طبيعة تعاهدية ، ‏وتعاقده مع غيره هو عمل فردي ، وظلت النظرة الفردية هي السائدة في كتابات ‏الذين بشّروا بنظرية العقد الاجتماعي ، حتى جاء روسو فطرح فكرة ( ‏الاستسلام التصوفي ) الذي يحمل البشر على أن يتخلوا عن إراداتهم الخاصة ‏لصالح إرادة عامة تنشد الخير للجميع فأعاد الاعتبار للطبيعة الاجتماعية التي ‏خُلق عليها الإنسان وأثبت إن مقولة أرسطو ( إن الإنسان كائن اجتماعي ) هي ‏مقولة جديرة بالثقة و الاحترام ، مع ملاحظة إن مصطلح ( الاستسلام الصوفي ‏‏) الذي جاء به روسو كان غامضا وغير محدد ، مما دفع بـ ( برك ) (‏ ‏) ‏لإنتقاد نظرية العقد الاجتماعي يشدة  فقال : ( إن المجتمع زمالة تتواتر عبر ‏الأجيال على تحقيق غاياتها ، ولذلك لا يمكن أن تكون زمالة بين الأحياء ‏وحدهم ، فهي زمالة بين الأحياء والأموات ، أي بين الذين ولدوا والذين لم ‏يولدوا بعد ، أخطأ الذي فسر الدولة على إنها تعاقد أو إذعان أو زعامة أو ‏حكومة ) (‏ ‏) ، وقد كان محقّا في هذا النقد فالمجتمع ليس حكومة ومواطنين ‏فقط وإنما يتعدى ذلك إلى منظومات أخرى دينية وثقافية وحضارية تجد الناس ‏يتحركون خلالها حتى مع عدم وجود حكومة أو دولة . ويُعدُّ هذا النقد الخاطف ‏لنظرية العقد الاجتماعي ضروريا جدا وتوضيحا مهما يخدم استجلاء معالم القوة ‏في النظرية القرآنية وتفرّد خطها في النظر إلى الطبيعة الخاصة للإنسان ‏بوجوده الكوني والتاريخي ، بعد أن رأيت إن البعض من مفكري الإسلام ‏أصبحوا جانحين إلى تفسير القرآن بالنظريات الغربية بعد أن خطفت أبصارهم ‏ببريقها . نعم أيّد القرآن في بعض آياته فوائد ( العقد الاجتماعي ) ولكنه لم ‏يجعل منه سببا وحيداً وحاسما في الاجتماع البشري . فالاجتماع البشري في ‏القرآن ليس حركة التفافية أو إجراءً وقائيا لمواجهة أخطار الطبيعة والناس أو ‏غيرها كما تذهب إليه نظرية العقد الاجتماعي ، بل هو مصير محسوم ومقرر ‏منذ بدء الخليقة ، قال تعالى: ((  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏‏))  (‏ ‏)  ، كما إنه يُعدُّ من مباهج الوجود ومن دلائل قدرة الله تعالى لقوله : (( ‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ‏لِلْعَالِمِينَ )) (‏ ‏) ، وكما قلت فأن القرآن الكريم لا يمنع من إنفاذ ذلك القرار ‏الإلهي الحاسم بالاجتماع البشري وفق ضرورات ومقتضيات طبيعية منها ما ‏نسميه بـ ( العقد الاجتماعي ) ليعمل ضمن مجموعة من العناصر الأخرى ‏التي تلتف حول محورها الكبير لتأسيس الاجتماع الإنساني ، ومثال ذلك التأييد ‏يظهر في قوله تعالى : (( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ‏وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) (‏ ‏) ، وقوله تعالى : (( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ ‏النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ ‏اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .(‏ ‏) ‏
الحرية والعدالة في المواطنة الإسلامية  : ‏
‏   من ميزات القرآن الكريم الأصيلة ، إن مبادئه وأصوله عرىً متصلة فيما ‏بينها ، تنتظم بوثاق جدلي ، و لا يمكن فصلها عن بعضها البعض دون أن ‏يؤدي ذلك الفصل إلى تشويه تلك السلسلة أو فقدان التمتع بثراء الفهم الكامل لها ‏، فاستخلاف الإنسان وتكريمه يبقى مرهونا بالثقة بوجوب حريته ، الحرية هي ‏القدرة على الفعل والترك مع الاختيار , فأيّ خليفةٍ لن يكون جديرا بوصفه ‏مستخلفاً إذا سُلب تلك القدرة أو حُرم منها .أنا لا أرى أي فضل وكرامة لقطار ‏يسير على سكة محددة لا يحيد عنها ، لا  يمكن لأيّة آلة من هذا النوع أن ‏تدعي فضيلة الاستقامة ، ولن يكون الإنسان شبيها بقطع الحديد تلك  !!  قلنا إن ‏اليوم الذي خُلق فيه الإنسان كان يوم تكريمه واستخلافه ، و أيضا كان يوم ‏إعلان حريته التي ستكون قدر وجوده ومزاج حركته الكونية . وعندما نتحدث ‏عن الحرية في الإسلام فإننا لن نجد مشقة كبيرة في أن نثبت إن الحرية أصل ‏أول من أصوله ، فالمقصد الأصلي من وضع الشريعة هو إخراج الإنسان‎) ‎من ‏داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختياراً، كما هو عبدٌ لله اضطراراً ) (‏ ‏)‏
‏   وقد مجّدَ القرآن الكريم حريّة الإنسان في الكثير من آياته إلى الحد الذي يحق ‏لنا أن ندعي معه إن القرآن كان كتاب الحرية الأول على الإطلاق فقد قال ‏تعالى : (( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا ‏هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )) (‏ ‏)  وقال: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ‏فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )) (‏ ‏) وقال : (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ‏وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)) (‏ ‏)  وقال : (( قُلْ يَا أَيُّهَا ‏النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا ‏يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )) (‏ ‏) وحدد القرآن مهمة الرسول ‏ بالتذكير ‏والتبليغ وليس بالإرغام والقهر فقال : (( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *  لَسْتَ عَلَيْهِمْ ‏بِمُسَيْطِرٍ )) (‏ ‏) ، بيد أن أكبر نداء أطلقه القرآن إلى الإنسانية مبشراً بحريتها ‏هو قوله تعالى : (( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )) (‏ ‏). فكيف ‏يستطيع أحد أن يتكلّم بعد ذلك عن الجبر وسلب الإرادة وتكبيل القدرة  فإن ‏‏(نكران حرية الإرادة ونكران التبعية الخلقية، واعتبار الإنسان مجرد وحدة ‏فيزيائية كيماوية وجزءً من مادة حية قل أن تتميز عن الحياة، كل هذا يؤدي ‏حتماً إلى موت الإنسان الخلقي وخنق كل روحانية وكل أمل فيه، ويؤدي إلى ‏ذلك الشعور الرهيب الموهن بالبطلان الكامل) (‏ ‏)‏
‏   هذا هو المستوى الفلسفي الوجودي لمعنى الحرية . ولم يكن قصدي هو ‏البحث في هذا المستوى لأنه ربما كان من بحوث العقيدة ، وإنما قصدت من ‏ذلك التمهيد للكلام في المستوى الثاني من مستويات هذا المبدأ . إذ لا يمكن ‏تصوّر أن يكون الإنسان حرّاً في علاقته مع الخالق وعبداً في علاقته مع غيره ‏‏!!  وبهذه الرؤية يمكن أن نتحدث في المستوى الثاني أي المستوى الاجتماعي ‏للحرية ، فهذه المنحة العزيزة ( الحرية ) التي وهبها الله لعباده هي أثمن ما ‏حصلوا عليه بعد وجودهم . هي المعنى الحقيقي لإنسانيتهم ، هي أيضا إرادة ‏إلهية يجب أن يبذلوا دونها كلّ شيء . الحرية الاجتماعية حق لا يمكن لأحد أن ‏يتفضل بمنحه للآخرين ، حق حصل عليه الناس مع حصولهم على الوجود ، ‏وقد تظهر تلك الحرية كحق شخصي لكنها تتأكد في النهاية أصلا من أصول ‏التعايش الاجتماعي ، حرص الإسلام على تأكيده والعناية به في كل نواحي ‏الحياة الاجتماعية للمواطن المسلم في أمته المسلمة ، فقرر بحزم و وضوح ‏حرية الناس فيما يأتي :‏
‏   1– حرية الذات الإنسانية في أصل وجودها وأمنها : فنعمة الوجود في ‏الإسلام  منحةٌ إلهية لا يمكن لأي أحد أن يسلبها أو يتصرف بها كلاً أو جزءً ، ‏والناس مسلّطون على ذواتهم لا يشاركهم في ذلك أحد ،  وقتل النفس أو إتلافها ‏من أكبر الكبائر في الإسلام قال تعالى: ((  مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ ‏فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )) ‏‏(‏ ‏) ، وقد جعل القرآن جزاء الإقدام على قتل النفس قتلاً مثله ، قال تعالى : (( ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ‏وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى )) (‏ ‏) ، وجعل في هذا الجزاء العادل حياةً للجميع فقال تعالى ‏‏:(( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (‏ ‏) ، وفصّل في ‏القصاص فرتّب جزاءً في الأعضاء والجوارح فقال : ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ‏النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ‏فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (‏ ‏) ‏
‏   والأصل في نفوس الناس ورقابهم أنهم أحرارٌ أبدا كما ولدتهم أمهاتهم وكما ‏خلقهم الله ، وأما ما يقال عن تشريع الإسلام للرق والعبودية فذلك وهمٌ متجانفٌ ‏للحقد ونابع من الجهل ، و للرد عليه و إبطاله  يكفينا أن نقول إن الإسلام لم ‏يخترع الرق أصلا وإنما وجد نفسه أمام قيم وتقاليد اجتماعية وسياسية موروثة ‏عبر قرون ممتدة ، فسعى للقضاء عليها ضمن حزمة فعّالة من التشريعات ‏والإجراءات الفقهية والمدنية ، وقد بدأ القرآن فعلا في خطّةٍ طويلة الأجل ‏ومتعددة الجوانب للقضاء على الرّق ، فقد جعل تحرير الأرقاء أحدى الكفارات ‏المترتبة على بعض الذنوب والمخالفات الشرعية ومنها كفارةُ الحنث باليمين ، ‏قال تعالى : (( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ ‏الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ‏أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ‏وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (‏ ‏) و منها كفّارة ‏الظهار (‏ ‏) ، فقال تعالى : (( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا ‏قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏‏)) (‏ ‏) وكفّارة القتلِ الخطأ لقوله تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا ‏خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ ‏يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ ‏مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ ‏يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )) (‏ ‏) ، ‏وأخبرنا القرآن أنه لا يجوز الاحتفاظ بالأسير و أن المسلمين مخيّرون في ‏التعامل مع أسراهم من غير المسلمين بين أمرين : أما المنُّ عليهم بإطلاق ‏سراحهم دون مقابل ، أو مقابل فداء مالي أو شخصي من أسرى المسلمين قال ‏تعالى : (( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا ‏الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) (‏ ‏) ، وجعل ‏الإسلام عتق المملوك أيضا كفارةً لضربه أو تعذيبه فقد قال رسول الله ‏ (  من ‏لطم مملوكا له ، أو ضربهُ فكفارته أن يعتقه ) (‏ ‏) ، ثم جعل الإسلام السعي ‏لتحرير العبيد مصرفا من مصارف المال العام ( الزكاة ) بقوله تعالى : (( إِنَّما ‏الصَّدقَاتُ للفُقَراءِ وَالمَسَاكينِ وَالعَاملِينَ عَليْها وَالمُؤلفةِ قُلوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ ‏وَالغَارِمينَ وَفِي سَبيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبيلِ فَرِيضةً مِّن اللهِ وَاللهُ عَليمٌ حَكيمٌ)) (‏ ‏) ، ‏و دعا القرآن إلى تحرير الرقاب عموما وجعله عملا مقربا إلى الله و منجيا من ‏عقبات القيامة قال تعالى : ((فلاَ اقْتَحمَ العَقَبةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبةَ فَكُّ رَقبَةٍ أَو ‏إِطعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغبةٍ يَتيماً ذَا مَقْرَبةٍ أَوْ مِسْكيناً ذَا مَتْربةٍ)) (‏ ‏) ، وأيّد ‏القرآن رغبة الرقيق في الحصول على حريته في مقابل مادي يدفعه لمالكه ، ‏وحث المالك على الاستجابة لرغبته في الخروج إلى ساحة الحرية، من خلال ‏‏(المكاتبة )، وندب المسلمين إلى إعانة أصحاب تلك الرغبة من الرقيق بقوله ‏تعالى: (( وَالَّذينَ يَبتغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمتُمْ فِيهمْ ‏خَيْراً وَأَتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذي أَتاكُمْ)) (‏ ‏) ، ولا أريد هنا أن أفيض في الكلام ‏عن الأحوال المدنية والدينية للعبيد والإماء التي عالجها الإسلام بحرص ‏وإخلاص ولا أريد أن أورد عشرات الأحاديث والوقائع من سنة الرسول ‏ ‎ ‎وأهل بيته الكرام وصحابته الأجلاء ، ففي ما أوردناه من آيات القرآن كفاية لمن ‏كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . لكني أكرر القول إن القرآن الكريم قد ‏بدأ حملته الطويلة للقضاء على الرق إلى الأبد ومكّن الفقهاء من مواصلة تلك ‏الحملة بما قدّم لهم من أمثلة وبما وضع في أيديهم من خيوط للاستمرار حتى ‏نهاية الشوط ، لكن الفقهاء آثروا عدم الذهاب بعيدا وتحريم الرق صراحة بعد ‏كل تلك الإجراءات والتمهيدات وبعد كل هذه القرون ، وليس ذلك تأييدا منهم ‏للرق أو تحبيذا له وإنما لتورعهم عن الإقدام على تحريم ما لم يرد نص قاطع ‏بتحريمه ابتداءً ، وأنا أظن أنّه لو كان لنا أن نتصوّر إن القرآن الكريم لا زال ‏يتنزل لحد الآن لأمكننا أيضا أن نتصور نزول آيات صريحة تحرّم الرق لأننا ‏نجد مقدمات ذلك فعلا موجودة في القرآن ولأننا نعرف إن التدرّج في التشريع ‏هو أحد مناهج القرآن . وأرجو أن لا يفهم هذا القول على إنه من باب الافتئات ‏على الله وإنما من باب الاستقراء لكتابه المجيد . وإذا كان الرق بمفهومه ‏التقليدي قد انتهى عند المسلمين ، إلا إن مظاهرا أخرى له لا تزال قائمة بينهم ‏، ومنها استعباد الناس سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، من قبل المستبدين والطغاة ‏وأصحاب المال والسلطة والنفوذ . ‏
‏    2– حرية التملك : ونعني به حق الإنسان في حيازة الأشياء وتصرفه فيها ‏لمنفعته ومصالحه ، لما في ذلك من دافعٍ له للحركة على هذه الأرض وإدامةٍ ‏لعنايته بالأشياء ، فلو كانت جميع الأشياء مملوكة للجميع لما باشر عنايتها أحد ‏ولتعطلت المصالح ، وقد شدّد القرآن على حق الملكية الفردية وغلّظ في العقوبة ‏المترتبة على التجاوز عليها فقال : (( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً ‏بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  )) (‏ ‏) . وحذّر من التجاوز على ‏ملكية الآخرين بالطرق الملتوية بقوله تعالى : (( وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا ‏تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا )) ‏‏(‏ ‏) ، وقوله تعالى :(( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ‏لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) (‏ ‏) ، وغلّظ في التحذير ‏عندما جعل النهي عن أكل أموال الآخرين بالباطل مقترنا بالنهي عن قتل ‏أنفسهم فقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ‏تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )) (‏ ‏) ، ‏وإلى جانب اعتراف الإسلام بالملكية الفردية وتشريعه القوانين لصيانتها ، فقد ‏أكد القرآن على الملكية الجماعية التي تعود للأمة بأسرها وغلّظ في التجاوز ‏عليها بأي شكل من الأشكال ، وذلك ما سنعرض لاحقا .‏
‏   3 – حرية العمل : العمل في الإسلام عبادة ، وأولى نتائجه عمارة الأرض ‏وإصلاحها وهو لازمة من لوازم الاستخلاف والاستعمار . ومن الظلم أن نقصر ‏معنى العمل في قوله تعالى : (( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )) (‏ ‏) ‏على الأعمال الشرعية من صوم أو صلاة ، إنما هو شامل لجميع أعمال ‏الإنسان . إن القيمة المعنوية والآثار المادية والنفسية التي يحققها العمل للإنسان ‏تجعله حقا ثابتا من حقوق حريته وكرامته . فلا يمكن لأية جهة أن تمنع ذلك ‏الحق أو تعرقله بأي شكل من الأشكال . فللفرد أن يعمل أينما شاء ومتى ما ‏شاء وكيفما شاء إذا لم يكن عمله متعارضا مع الشريعة ومضرا بالآخرين . بل ‏على المجتمع والدولة أن يوّفرا له الفرص السانحة لعمله ويذللا الصعاب في ‏طريقه . كما إن على المجتمع أن يعترف بمهارات الأشخاص ويقوم بتقديرها ‏وتشجيعها وعدم الحط منها قال تعالى : (( وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا ‏تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) (‏ ‏)   ‏ويحدثنا القرآن الكريم عن سيرة الأنبياء الحافلة بالعمل والكد و الإعمار ، حتى ‏ليُخيّل إليك وأنت تقرأ الآيات التالية أنك في ورشة عمل كبرى ينهمك فيها ‏الناس فلا تقتصر جهودهم على تكاليف العبادة المناسكية فقط ، قال تعالى في ‏ذكر أنبيائه داود وسليمان – عليهما السلام - : ((وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا ‏جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ‏وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا ‏شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ ‏مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ ‏وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ ‏عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) (‏ ‏) وهناك الكثير من الأمثلة العملية التي تؤكد قيمة العمل  ‏من سيرة رسول الله ‏ ‏ وأهل بيته وصحابته وعامة المسلمين .  ‏


الباحث : محمد رضا الشريف ‏
alshareifmr@yahoo.com

الجزء الثاني


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد