أثرُ القرآنِ الكريمِ في مَفهومِ العقل ِ ومقولاتهِ عِندَ الإمامِ موسى بن جعفر- عليه السلام- ( الجزء الأول)

  • 23 - 06 - 2021
  • 28509
  • /
  • بحوث ودراسات /
  • أثرُ القرآنِ الكريمِ في مَفهومِ العقل ِ ومقولاتهِ عِندَ الإمامِ موسى بن جعفر- عليه السلام- ( الجزء الأول)
د.نوري كاظم الساعدي جامعة بغداد - كلية التربية( ابن رشد) قسم اللغة العربية

​مُقَدِّمة:                          بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمدُ لله الذي انحسرتِ الأوصافُ عن كنهِ معرفتهِ ،وردَعتْ عظمتُه العقولَ،فلم تجدْ مساغا   

 إلى بلوغِ غايةِ ملكوتهِ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ،أهل

 الدين وأساسه،وعماد اليقين،مصابيح الدّجى،لا يخفى فضلهم على مؤمن، ضرب الحق بهم مثلا فقال فيهم:((ألم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثلاً كَلِمَةً طيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طيِّبَةٍ أصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ * تُؤتِي أُكلَها كَلَّ حِينٍ بإذِنِ رَبِّها وَيَضرِبُ اللّهُ الأمثالَ للناسِ لَعَلهم يَتَذّكَرُونَ)) [ إبراهيم /24 – 25].

      وهم أهل بيت الرسول  (صلى الله عليه وآله)  ،عِـدلُ القرآن،وأهله،وترجمانه ،وعنوان الهدى،ولا ريب أنْ نرى ثمة

وشائج تجمع بينهما، فهما باتساقهم مع كتاب الله، القرآن الكريم،يؤلفان كــُلا ًواحدا ً،لا تـنفصم عراه. فهم

 أوتاد الإيمان ،وثقله مع كتاب الله، تركهما رسول الله  ( (صلى الله عليه وآله) )  ، من بعده .فهُم خلفاؤه اثنا عشر إماما، قال أمير

 المؤمنين  (عليه السلام) :((سمعتُ رسول الله   (صلى الله عليه وآله)    يقول : أنا سيد ولد آدم ، وأنت يا علي والأئمة من بعدك

 سادة أُمتي،مَن أحبنا فقد أحبّ الله،ومن أبغضنا فقد أبغض الله ،ومن والانا فقد والى الله، ومن عادانا

 عادانا فقد عادى الله ، ومن أطاعنا فقد أطاع الله ، ومن عصانا فقد عصى الله )) (1).

     ويعدُّ الإمام الكاظم  عليه السلام واحدا من أهل بيت الرسول، وعترته ،وخلفائه ،وهو موسى بن جعفر بن  محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب  ،وهو السابع من أئمـة أهل البيت ،وخلفاء النبي  (صلى الله عليه وآله)  ، الاثنا عشر. ولد في السابع من صفر عام (128هـ) في الأبواء، أمه حميدة البربرية وتسمّى  حميدة المصفاة أي التي صفيت، وطهرت من الرجس والعيوب،وهذا شأن أمهات الأئمة.عاش في كنف والده الإمام  الصادق عليه السلام  حوالي عشرين عاما، وتسلّم من بعده منصب الإمامة الكبرى بعد شهادة والده، وكان عمره عشرين عاما،واستمر قائماً بهذا الأمر مدة خمسة وثلاثين عاما.وكان (عليه السلام) أحفظ الناس لكتاب الله تعالى،وأحسنهم صوتاً به،وكان إذا قرأ يحزن ويبكي ،ويبكي السامعون لتلاوته،وكان بالمدينة.  يسمّى زين المتهجّدين.وألقابه كثيرة من أشهرها:الكاظم،والصابر،والصالح،والأمين.رحل عن هذه الدنيا مسموماً في غياهب سجن السندي بن شاهك في بغداد في حكم هارون الرشيد في الخامس والعشرين من رجب سنة(183هـ)عن خمسة وخمسين عاما. (2)

   وفي منهج الإمام (عليه السلام)  ثمة إضاءات شاخصة للعيان، بيدَ أنّ الإضاءة التي سيلتفت  البحث إليها، التي

تعدُّ ظاهرة بارزة في منهجه،ومنهج آبائه وأبنائه ،هي توظيف العقل،بوصف الأخير،يتفق مع الإسلام،

 ومنهجه في الحياة في إعمال الفكر،وشحذ العقول في سبيل التوصّل إلى الحقّ- سبحانه -والدعوة إليه.

 وسيرا على نهج جدّهم رسول الله  (صلى الله عليه وآله)  الذي قال في شأن العقل:(( لكلِّ شيء آلة وعُدّة،وآلة المؤمن

وعدَّته العقل،ولكلِ شيء مطية ،ومطية المرء العقل،ولكلّ شيء غاية ،وغاية العبادة العقل.)). (3)

     واتجه البحث تلقاء منهج تحليل المضمون،عارضاً تارة لمقولات الإمام (عليه السلام) التي تختص بالعقل،وتارة

أخرى محللا،وموازنا لها على وفق اقترابها من القران الكريم،وتوظيف الإمام (عليه السلام) لآي الذكر الحكيم فيها

ومكتفيا بعرض عدد محدد من تلك المقولات.وهي اثنتا عشرة مقولة.فأشار البحث – بداءة- إلى المفهوم،

والعقل في اللغة والاصطلاح،وبعدها بيان العقل،وألفاظه في القرآن الكريم:فاختار البحث خمسة ألفاظ  ،

هي:أولو الألباب،والبصيرة،والعقل،والقلب،والنُهى.وثمة ألفاظ  في القرآن الكريم،أشارت إلى نشاط العقل

تمّ  ذكر أربعة ألفاظ منها،هي: الحكمة،والشعور،والفقه،والفكر،ثمّ اتجه البحث إلى الاستدلال العقلي عند

الإمام (عليه السلام) ،وبعدها كان القرآن الكريم في مقولات العقل عند الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)  فالتفت إلى خمس

مقولات كان للقرآن الكريم حضور صريح فيها،ثمّ أتى إلى ذكر مقولات ثلاث أشارت للعقل،ولكن بألفاظ

أخرى،وبعدها اتجه البحث إلى ذكر مقولات أربع كان لمعاني القرآن الكريم حضور فيها .وكانت المقولة

 الرابعة،التي سماها البحث المقولة الكبرى:((جنود العقل،وجنود الجهل))من أكبر المقولات التي تختص

 بالعقل .وأخيرا تمت الإشارة إلى فاعلية القرآن الكريم  وآثاره في مقولات العقل.وسيتم الالتفات إلى تلك

المضامين على النحو الآتي:

-  المفهوم والعقل لغة واصطلاحا:

 أولا:المفهوم في اللغة والاصطلاح:

     ورد المفهوم في اللغة ضمن مادة (فهم) التي تعني المعرفة،أي معرفة الشيء، أو إدراكه،أو الإحاطة به(4)، فـ ((الفهم:هو ما يقتضي الإحاطة بالمقصود إليه)). (5) وهذه الإحاطة لا تختص بشيء دون آخر.

     أما المفهوم في الاصطلاح: فإنّه أمسى مصطلحا،وعلى نحو خاص عند الفلاسفة،واتخذ عندهم أكثر من اتجاه .وقد وجد هذا المصطلح صدى عند المناطقة العرب منذ القرن الرابع الهجري، فكانت  لفظة (مفهوم) ،عندهم لها معنى محدد،وهي أنّ مفهوم شيء ما يمكن أن يعدّ أصغر طائفة من الخصائص التي تصلح أن يحد بوساطتها وتلك الخصائص تمثل المقومات الذاتية لذلك الشيء.(6)وهو عند عدد من الفقهاء على قسمين:الأول:مفهوم المخالفة، ويُسمّى دليل الخطاب،وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب.

 والقسم الآخر:مفهوم الموافقة. (7)

   لقد تم الالتفات إلى"المفهوم" في المنطق ضمن القياس في مبحثي التصورات، والكلي. ففي التصورات تؤخذ القضية الحمليّة عن طريق الموضوع والمحمول، فينظر إلى الموضوع من جهة  (الماصدق)أي(أفراد الذات).أما المحمول فَينْظًرُ إلى الموضوع من جهة(المفهوم) أي(اسم المعنى)(8)، فيتم تمييز التصور من ناحية دلالته على شيء ما فيكون اسم ذات ، أمّا من ناحية دلالته على صفة يتصف بها الشيء فيكون اسم معنى. وليس من العسير التمييز بين الشيء، وصفته الملازمة له، أي بين الإنسان بوصفه(اسم ذات) والإنسانية ، الصفة الملازمة له،وهي (اسم معنى). فالكائن الحي يعد (اسم ذات)، والحياة تعد (اسم معنى)،ومن أجل هذا فان اسم الذات، واسم المعنى مقترنان دائماً، والعلاقة التي تجمع بينهما علاقة انطباق أي انطباق المفهوم على مصداقه،وعلى هذا يتم القياس. والمفهوم و الماصدق –هنا- يمثلان كلاهما معنى، إذ أن المعنى بحسب وجوده يقسم على قسمين:

   الأول:المفهوم:وهو المعنى نفسه،بوصفه الصورة الذهنية نفسها المنتزعة من حقائق الأشياء.

والآخر: الماصدق: وهو المعنى الموجود في الخارج(9).

وبحسب ما تقدّم ،تمّ النظر إلى (المفهوم) في مبحث التصورات عن طريق أنواع المعنى: فكان المفهوم والماصدق.

     وحين تم تناول المفهوم في مبحث الكلي. قسم على قسمين: الأول: المفهوم الجزئي: وهو الذي يمتنع انطباقه على أكثر من ما صدق واحد. ويكون على جزأين:مفهوم جزئي حقيقي: ينطبق على جزء واحد.ومفهوم جزئي إضافي: ينضوي تحت مفهوم أوسع منه.

والقسم الآخر: المفهوم الكلي:وهو الذي لا يمتنع انطباقه على أكثر من ما صدق واحد. وهو قسمان:

مفهوم كلي متواطئ: وهو كلي ينطبق على ما صدقه بالتساوي.ومفهوم كلي مشكك: وهو كلي ينطبق على ما صدقه بالتفاوت.(10)

ثانيا: مفهوم العقل في اللغة والاصطلاح:

     العقل في اللغة:لمادة(عقل) عدد من المعاني،منها :عقـَل،يَعقِل،عقلا ً فهو عاقِل،والعقلُ نقيض الجهل.

ويُقال:عَقـَلَ الصبيّ:إذا أدرك وزكا.وأصل العقل الإمساك والاستمساك كعقل البعير بالعقال،ويُقال:العَقلٌ:

للحِصن،فهو معقل وجَمعُه معاقل.والعَقل:الحِفظ،فيُقال:أعقلتُ دراهمي،أي حفظتـُها.وعقلَ لسانه:كفه،

والعَقـل:ثوب تتخذهُ نساء الأعراب.والمعقول ما تعقِلـُه في فؤادِك،ويُقال:هو ما يُفهم من العَقل ِ. (11)

    العقل في الاصطلاح:ثمة عدد من الحدود للعقل،يمكن إيجاز أهمها على النحو الآتي:فهو اسم مشترك

لمعان متعددة . إذ يرى جابر بن حيّان(ت 200هـ)أنّ العقل هو:((الجوهرُ البسيط القابل لصور الأشياء

 ذوات الصور ،والمعاني على حقائِقها  كقبول المرآة لما قابلها من الصُّور ،والأشكال ذوات الألـــــــوان

والأصباغ.)) (12).في حين يرى فيلسوف العرب الكندي(ت260هـ)أنّ العقل: ((هو جوهرٌ بسيط ، مُدرِكٌ  

للأشياء بحقائقها.)).(13)أما أبوهلال العسكري(ت 395هـ)،فيرى أنّ العقل هوما يمنع صاحبه عن الوقوع

 في القبيح. (14) ويرى الراغب الأصفهاني(ت 502هـ): أنّ العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم ، وأشار

إليهe)وَآله( بقوله: ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل))ويقال– أيضا- للعلم الذي يفيد منه الإنسان بتلك القوة عقل،وأشار إليهe)وَآله(بقوله:((ما كسب أحد شيئا أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى)). وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى:((وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ(([العنكبوت/43].)) وكل موضع ذم الله فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول نحو:قوله تعالى:))صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ()[البقرة/171]. ونحو ذلك من الآيات،وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول.(15) وعلى هذا يقال العقل لأمرين: الأول:القوة المتهيئة لقبول العلم ، وهى الغريزة  التي  وضعها

اللَّه  في  قلوب الممتحنين من عباده،وهذا  يعرف  بفعاله  ولا نعرف  كيفيته .والثاني:العلم الذي يفيد منه


الإنسان بتلك الغريزة أو القوة يقال له عقل .

   وجاء في كتاب التعريفات،عدد من الحدود منها:أنّ العقل جوهر مجرد عن المادة في ذاته،وهي النفس

الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله:أنا.أوهو جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقاً ببدن الإنسان.أوهو قوة للنفس الناطقة، وهو صريح بأن القوة العاقلة أمر مغاير للنفس الناطقة، وأن الفاعل في التحقيق هو النفس ،

والعقل آلة لها،بمنزلة السكين بالنسبة إلى القاطع،وقيل:العقل والنفس والذهن واحد،إلاّأنها سميت عقلاً لكونها مدركة،وسميت نفساً لكونها متصرفة،وسميت ذهناً لكونها مستعدة للإدراك.أوهوجوهر مجرد يدرك الفانيات

بالوسائط،و المحسوسات بالمشاهدة. (16)

   ويعترض الشيخ المجلسي(ت1111هـ)على حدود الفلاسفة الذين رأوا أنّ العقلّ مجرّد قديم ،لا تعلّق له

بالمادة ذاتا ولا فعلا ،ويرى أنّ قولهم يستوجب إنكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره،

من أجل هذا،يقدّم عددا من الحدود منها:أنّ العقلَ((هو قوّة إدراك الخير والشرّ،والتمييز بينهما،والتمكّن من

معرفة أسباب الأمور،وذوات الأسباب،وما يؤدي إليها، وما يتمتع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف،

والثواب، والعقاب.)). (17)

       وقد قسم الشريف الجرجاني(ت816هـ)مستويات العقل على أربعة منازل،هي:العقل المستفاد، والعقل بالفعل، والعقل بالملكة ،والعقل الهيولاني .

فالعقل المستفاد: هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه.

أمّا العقل بالفعل: هو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب، فتحصل لها ملكة

الاستحضار متى شاءت من غير عناء كسب جديد، لكنّه لا يشاهدها بالفعل. في حين العقل بالملكة:هو علم

بالضروريات، واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.

أمّا العقل الهيولاني :هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهي قوة محضة خالية عن الفعل مثلما عند

الأطفال،وإنّما تمت نسبته إلى الهيولى؛لأنّ النفس في هذه المنزلة، تشبه الهيولى الأولى الخالية في ذاتها من

 الصور. (18) ويرى الخوارزمي الكاتب (ت 387هـ) أنّه ((القوّة في الإنسان ، وهي في النّفس بمنزلة القوّة

الناظرة في العين؛و العقل الفعّال لها  بمنزلة ضَوْءِ الشمس للبصر ،فإذا  خرجت  هذه القوّة  التي هي العقل

الهيولاني إلى الفعل تُسمّى العقل المُستفاد.)).(19)

    وبحسب ما تقدم فإنّ المراد بمفهوم العقل: مجموعة الخصائص ،والأدوات الخاصة التي تميِّز العقل من

غيره ،فضلا عن الخصائص المشتركة التي تصير منه عقلا أو أن يطلق عليه انه فعل عقلي؛فإذا كان العقل

مفهوما (اسم معنى) فان خصائصه وأدواته (ما صدق / اسم ذات) لذلك (المفهوم/ العقل).

-العقل وألفاظه في القرآن الكريم:

   أتى القرآن الكريم  إلى  ذكر ألفاظ  متعددة  للعقل،و توظيفه ،وبيان أهميته بوصفه أداة فاعلة في العلم

الذي يفضي إلى العبادة الحق ،ومعرفة  U Q،الذي هو أساس كل معرفة،وهذا ما أشارت إليه عدد من

الآيات الكريمة  التي،حثت الناس على المعرفة اعتمادا على التفكير،والتدبر. فعدّ القرآن الكريم العقل من

المصادر الرئيسة للعلم والمعرفة، وقد أولاه أهمية قصوى.ومن الألفاظ التي تشير إليه:

1 ـ أولو الألباب :ومفردها اللب.وهو لبُّ اللوز وغيره ولبابه،وهو ذو لب،وهو من أولي الألباب ،ويقال:  للذكي هو لبيب من الألبّاء،وقد لبّ يلب لبابةً. وأخذ لبابه: خالصه. ويُقال:رجل لباب -أي:عاقل- من قوم

 لباب وحسب لباب(20)-أي أصيل-.وقد جاءت في القرآن الكريم في أكثر من موضع  كقول الحق تعالى: (( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[المائدة/100].

2- البصيرة:أخذت في الأصل من لفظة البصر،فيقولون: أبصر الشيء،وبصر به إذا صار عالما به،وهو

بصير به،وذو بصر و باصرة ،وهو مستبصر في دينه وعمله،ويقال:له فراسة ذات بصيرة وذات بصائر

وهي الصادقة. وقد جاءت البصيرة  في القرآن الكريم بثلاثة معاني:منها،معنى قوة الإدراك والعلم. فيقال

لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر(21)، كقوله تعالى:((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  ))[يوسف/108].

3-العقل:جاء في قول الحق تعالى: ((وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))[الجاثية/5].

4 ـ القلب:جاء في قول الحق تعالى:((وَلَقَدْ ذَرأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) [الأعراف/179].
5 ـ النُهى:جاء في قول الحق تعالى:((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ))[طه/128].


   وثمة ألفاظ  في القرآن الكريم،أشارت إلى نشاط العقل،منها:


1)الحكمة:جاء في قول الحق تعالى:((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ))[البقرة/269].


2 )الشعور:جاء في قول الحق تعالى:((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)) [ الزخرف/66].

3)الفقه:جاء في قول الحق تعالى:((وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون))[التوبة/127].

4)الفكر:جاء في قول الحق تعالى:((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)) [الأعراف184].


-الاستدلال العقلي عند الإمام موسى بن جعفر-  (عليه السلام) -:

     نالت المباحث العقلية عند أئمة أهل البيتأهمية كبيرة من أجل إثبات العقيدة، وفي سعيهم لدفع

 الشبهات عنها،ووظفوا العقل توظيفا فاعلا في أثناء مناظراتهم،ويكفينا –هنا-الالتفات إلى روايتين اثنتين

 لنتبيّن منهما منهج الإمام  (عليه السلام) في الاستدلال العقلي،أمّا الأولى :فقد جرت محاوره بينه  (عليه السلام) عندما كان في

 المراحل الأولى من عمره الشريف،وبين أبي حنيفة النعمان الذي ، كان قادما إلى دار الأئمة للسماع من

الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في المدينة المنورة في أيام الحج،فسأل الإمام (عليه السلام)  عددا من الأسئلة منها،قوله له:

((ما اسمك؟فقال أنا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.فقلتُ له ياغلام

 ممن المعصية؟ فقال- (عليه السلام) - :إنّ السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث: إمّا أنْ تكونَ من الله-وليست منه- فلا

 ينبغي للربِّ أنْ يُعِذِّبَ العبدَ على مالا يرتكب. وإمّا أنْ تكونَ منه ،ومن العبدِ وليست كذلك ، فلا ينبغي

 للشريك القوي أنْ يظلِمَ الشريكَ الضعيفَ.وإمّا أنْ تكونَ من العبد -وهي منه - فإنْ عفا بكرمهِ،وجودهِ.

 وإنْ عاقب فبذنب العبدِ وجريرتهِ. قال أبو حنيفة : فانصرفت ،ولم ألقَ أبا عبدالله- (عليه السلام) - واستغنيت بما

سمعت.)). (22)

    أمّا الرواية الثانية،التي تشير إلى منهج الإمام-  (عليه السلام) - في الاستدلال العقلي،فهي عندما سُئِل عن الكفرِ

أهو أقدم أم الشِرك،فقال:((الكُفرُ أقدَمُ،أولُ مَن كَفَرَ إبليس((أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ))[البقر/ة34].والكفرُ شيءٌ واحدٌ،والشِركُ يُثبِتُ واحدا،ويُشركُ معهُ غيرهُ.)). (23

-القرآن الكريم في مقولات العقل عند الإمام موسى بن جعفر-  (عليه السلام) -:

     شغل القرآن الكريم مساحة كبيرة في مقولات الإمام (عليه السلام) إذ لم يكن بمنأى عن نظره،فأولاه اهتماماً خاصاً،و((يعدُّ حديث أهل البيتمن أهم مصادر تفسير آيات الكتاب الكريم،وبيان أبعاد معانيه،     و تصاريف أغراضه ومراميه،وقد أثبتت الدلائل والوقائع أنّهم الأقدر على تفسير الكتاب،وإدراك مضامينه،وفهم دقائقه ؛ لأنّ القرآن نزل في بيوتهم ،ولأنّهم الذين قرن رسول الله ،وذكر أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض...ومن تتبع التفسير الأثري الوارد عن أهل البيت يجد أنّ هناك خطوطا أساسية رسموها لفهم القرآن الكريم، يمكن أن نصطلح عليها: منهج أهل البيتفي التفسير،

وهي تــتمثل في تفسيـر القرآن بالقرآن ،وقولهم بسلامة الكتاب الكريم من التحريف ، وأنّه الذي بأيــدي

المسلمين ما بين الدفتين،وتفسير الآيات على ضوء القول بتنزيه الخالق عن التجسيم والوصف والرؤية ،

وتنزيه الأنبياء عن المعاصي،وغيرها من عقائد الإسلام الأصيل.)).(24)بحسب ما يرى الأستاذ علي موسى الكعبي.

    وعند البحث في سيرته المباركة ،نجد أنّ الإمام  (عليه السلام) كان يتخذ أسلوب الوصايا التي تتخذ موضوعات

متنوعة، وقد تتخذ موضوعا واحدا متنوّع الاتجاهات، وهذا التوجه ، نراه فيما روي من وصاياه لتلميذه

هشام بن الحكم، ولعلّ وصيته الطويلة التي ،أدار فيها الحديث عن العقل عندما ، اتخذ من النهج القرآني

سبيلا، ووسيلة في بيان أثر العقل كونه حجة لله على عباده فيما يختص بمسألة الإيمان ،والكفر،والضلال

والهدى،والاستقامة والانحراف،وغير ذلك من مسائل عقائديه،تشير بمجملها إلى سبُل التوحيد.(25) واتخذ

من قول رسول الله  (صلى الله عليه وآله)   نهجا سار عليه،الذي قال في شأن العقل وأهله:((إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن

نكلِّم الناس على قدر عقولهم.)).(26)فكانت مقولاته موجهة إلى هشام بن الحكم،وهو من أشهر المتكلمين

 الذين عرفوا برجاحة العقل،وقوة الحجة،وبيانها.

     وثمة سبيل سار عليه الإمام  (عليه السلام) في عرض مقولاته في توظيفه للقرآن الكريم،اتبع فيه نهج جده أمير

 المؤمنين  (عليه السلام) الذي قال:((كان في الأرض أمانانِ من عذابِ اللهِ،وقد رُفِعَ أحَدُهُما،فدوُنــَكُمُ الآخرَ، فتـَمَسَّكوا بـِهِ :أمَّـا الأمانُ الذي رُفِعَ ،فهو رسولُ اللهِ  (صلى الله عليه وآله)  ، وأمَّـا الأمانُ الباقي، فالاستغفار)).قال اللهُ تعالى:((وَما كانَ اللهُ لِيُعذِبَّهُم وأنتَ فِيهِم وَما كانَ اللهُ مُعَذِبََّهُم وهُم يَستـَغفِرونَ))] [الأنفال/33].ويعلق الشريف الرضيُّ على ذلك بقوله:((وهذا من محاسن الاستخراج ،ولطائف الاستنباط)). (27)

 فإنّ الإمام (عليه السلام) وظف التفسير-بداءة- في مقولاته،ثمّ اتجه تلقاء الآيات الكريمة التي تشير على  مباشر

نحو إلى لفظة العقل،أو أنّها مشتقة منها،أو التي أشارت للعقل،ولكن بألفاظ أخرى.

 أولا: المقولات التي كان للقرآن الكريم حضور صريح فيها :

    وجه الإمام (عليه السلام)  أكثر مقولاته للناس بوساطة واحدٍ من خواص أئمـة أهل البيتومريديهم، وهو هشام بن الحكم البغدادي الكندي(ت 179هـ) الذي صحب ثلاثة من الأئمة،وهم: جعفر بن محمّد الصادقُ  وموسى بن جعفر الكاظم،وعلي بن موسى الرضا. ومن ذلك المقولات التي تختص بمفهوم العقل ،

التي أتت إلى ذكر العقل وأهله،بصيغ شتى،وسيتم الالتفات إلى المقولات على النحو الآتي:

-المقولة الأولى:((إنّ الله تباركَ وتعالى أكملَ للناسِ الحُججَ بالعقولِ ،ونصرَ النَّبيِّين بالبيان،ودّلهُم على رُبُوبيَّته بالأَدِلةِ)). (28)  

      ويُفهم من قول الإمام-  (عليه السلام) -أنّ الله عزَّ وجلَّ مكـّن الناس من معرفته بثلاثة أمور،الأمر الأول:العقول،

 والأمر الثاني:البيان،والأمر الثالث:الأدلة.وتلكم الأمور مجتمعة ،تمثل منظومة متكاملة لمعرفته -سبحانه- فكان الإقرار بالتوحيد بداءة ،فقال تعالى:((وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ  الرَّحيمُ))[ البقرة/163]. ثم تردفها الآية الكريمة، التي يجتمع فيها: البيان، وهو أداة الأنبياء ،ووسيلتهم في الدعوة إلى الله ،وهيأ لهم

 الأدلة ،فكان البيان في صيغة الخطاب الموجه للعالمين،وهو الخطاب القرآني،وقد ذكره الحق في قوله تعالى:((هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ))[آل عمران/138].أمّا الدليل فكان في الآيات الكونية:خلق السماوات والأرض،وفي اختلاف الليل والنهار،وغير ذلك من آيات كلُّ ذلك كان دعوة للتأمل في معرفة الحق-سبحانه-وأنّه الموجد والمدبر،وإنما هذا يُتحصّل لذوي العقول، فكان قول الحق:(( إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))[البقرة/164].فقوله تعالى:(( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))قيل:أنه يراد به أمر عام في العقلاء من استدل منهم،ومن لم يستدل .وقيل: أنه يراد خاص بمن استدل به؛ لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات التي تشير إلى الحق سبحانه ولم يستدل بها صار كأنه لا عقل له فيكون كقوله تعالى:((إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا))[النازعات/45]. وقوله تعالى:((هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ))[البقرة/2].وذكر سبحانه الآيات الدلالات التي تظهر في السماوات والأرض، ويدل تغيّر أجزائهما واحتمالهما الزيادة والنقصان،أنّهما من الحوادث لا ينفكان

عن حدوثهما،وأنّ حدوثهما،وخلقهما يدل على أن لهما خالقا مدبرا لهما،لا يشبههما ولا يشبهانه،فلا يقدر

على  خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم ولا عرض،فإنّ جميع ما كان بصفة الأجسام

والأعراض مُحدَث،ولا بد له من مُحدِث ليس بمُحدَث،لاستحالة التسلسل، ويدلّ كونهما على وجه الإتقان

والإحكام والاتساق أنّ فاعلهما عالما حكيما،وأمّا اختلاف الليل،والنهار،واتساق حركتهما،وأخذ كلّ واحد

منهما من الآخر الزيادة ،والنقصان وعلاقة ذلك بحركة الشمس والقمر،إنّما يدل على أنّ لهما عالم مدبر

يدبرهما على هذا النحو،فلا يسهو عنها، ولا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة واقعة على نظام،وترتيب،

لا يدخلها تفاوت في دقتها،ولا اختلال في  نظام حركتها.(29)وهذا السبيل يظهر في عرض الدليل،ثم الاتجاه تلقاء العقل،يتواتر في أكثر من آية قرآنية كريمة،كقولهِ تعالى:(( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))[النحل/12].وقولهِ تعالى:((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف/3].وقولهِ تعالى:((وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ))[الروم/23].وكان أمير المؤمنين  (عليه السلام) قد أشار إلى عظمة الحق تعالى عندما قال: ((ظهر للعقولِ بما أرانا من علامات التدبير المُتقن،والقضاء المُبرم. فمن شواهد خلقه خلق السماوات

مُوطدات بلا عَمَد،قائِمات بلا سند.)).(30)فإنّ اللَّه سبحانه،دعا العقول إلى النظر في آياته،والوقوف عندها

والتدبر في عجائب خلقه،لأنّ في ذلك  سبيلا يفضي إلى معرفتهم به،وإلى العلم بأنه الخالق الرازق الإله

الواحد سبحانه، وأنّ من دونه خلق له، وأنّ الخلق كلهم مستعبدون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا.

-المقولة الثانية:((وعظّ - الله- أهلَ العقل ِ وَرَغَّبهم في الآخرةِ)). (31)

     في هذه المقولة يشير الإمام (عليه السلام)  إلى أمر الآخرة،ومعرفة أهميتها عند أهل العقل،بخلاف أهل الجهل،

 وإنّما تمّ ذلك بموعظة من الله سبحانه وتعالى، وترغيب منه لأهل العقل عندما عرض  لحياتي الدنيا

 والآخرة، الحياة الفانية التي تتسم باللعب واللهو،والحياة السرمدية الأبدية التي تتسم بأنّها خير وأبقى،وما

 يُدرِك ذلك إلاّ ذوي العقول،فقال تعالى:((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلاَ تَعْقِلُونَ )) [الأنعام/32].وقال تعالى:((وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) [القصص/60]. فالعقل يمنع صاحبه من الوقوع في الخطأ. لأنّه يدرك أنّ ثمة يوما ،تجزى فيه كلّ نفس

ما عملت فكان العقل القوة المتهيئة لقبول العلم، بوصفه الغريزة التي، وضعها سبحانه وتعالى في قلوب

الممتحنين من عباده،وهو ما يُعرف  بفعاله  من أجل هذا،يمكن أن يفيد الإنسان من تلك الغريزة أو القوة


 التي يقال لها عقل. (32)وقد قال رسول الله   (صلى الله عليه وآله)  :((ما قَسَمَ اللهُ للعبادِ شيئا أفضلَ من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي  (صلى الله عليه وآله)  في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب،(33) الذين قال الله تعالى:((وَمَا يَتذكرُ إلاَ أولُو الألبابِ))[البقرة/296].

-المقولة الثالثة:((خوّف -اللهُ -الذين لا يعقلون عذابه )).(34)

  إذ يشير الإمام (عليه السلام) إلى ما أصاب الأمم السابقة،وما حلّ بهم من بلاء،فعلى العقلاء أن يتعظوا في كل وقت

فالبلاء المقترن بمعصية الله لا يقتصر على زمن دون آخر، فهو ضريبة الكفر ،والغي،والعصيان،من هنا

فإنّ الإمام يريد أن يبين أنّ حكم الله نافذ،وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة،وقد قال تعالى:((ثُمَّ دَمَرنا الآخّرين* وَإنّكُم لَـتَمُرّوُنَّ عَلَيهِم مُّصبِحِينَ*   وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ))[الصافات/136-138].وجاء في مجمع البيان في تفسير  تلك الآيات: ((فقال:(ثُمَّ دَمَرنا الآخّرين)أي أهلكناهم ( وَإنّكُم لَـتَمُرّوُنَّ عَلَيهِم مُّصبِحِينَ*   وَبِاللَّيْلِ ) هذا خطاب لمشركي العرب ،أي تمرون في ذهابكم،ومجيئكم إلى الشام على منازله منازلهم ،وقراهم بالنهار،وبالليل

(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فتعتبرون بهم،ومن كثر مروره بموضع العبر فلم يعتبر كان ألوم ممن قل ذلك عنه،والمعنى: أفلا تتفكرون فيما نزل بهم،لتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر،والضلال.والوجه في ذكر قصص الأنبياء  

وتكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق،ومحاسن الخلال،وصرف الخلق عما كان

 عليه الكفار من مساوئ الخصال و مقابح الأفعال)). (35)   

-المقولة الرابعة:(( إنّ العَقلَ معَ العلم ِ)).(36)   

  يجمع الإمام (عليه السلام)  بين العقل والعلم،ويتخذ من قول الحق تعالى:((وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ))  [العنكبوت/43].سبيلا للإشارة لتلك الصلة،وقد روي أنّ الرسول  (صلى الله عليه وآله)  عندما قرأ هذه الآية،قال:((العالِمُ مَن عَقَلَ عنِ الله فعمِلَ بطاعتِه واجتَنَب سَخَطهُ)).إذ جاء في تفسير الكشاف:((كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنّ ربَّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت،ويضحكون من ذلك،فلذلك قال:((وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ))أي لا يعقل صحتها ،وحسنها ،وفائدتها إلاّ هم، لأنّ الأمثال ،والتشبيهات إنّما هي الطرق إلى  المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها ،وتكشف عنها ،وتصوّرها للأفهام)). (37)

     إنّ الإمام (عليه السلام) عندما بالعلم  قرن العقل بالعلم، جعل من الآية الكريمة  دليلا على أنّ الكثرة من الناس،

يبتعدون في أحكامهم وسلوكهم عن العقل،ومن ثمّ،فإنّه لا يعدّ قيمة إيجابية ؛لأنّ الكمّ لا يحمل معنى للقيمة

إذا لم يرتبط بالنوع.أمّا القلّة من الناس فإنّ الغالب عليهم الانطلاق من عمق الفكر وحركة الوعي.ويمكن

 القول أنّ هذه المقولة ،وغيرها من مقولات وثيقة إسلامية للمنهج القرآني في تقويم العقل،وفي مسؤولية

إثبات حركيته،وفي الأفق الواسع الذي يتحرك الإنسان في أثنائه في عالم الفكر والعمل،الأمر الذي يجعل

المنهج الأخلاقي يتداخل – على نحو كبير- مع المنهج العقلي.ويكون هذا التأكيد على العقل، في مقولات  أئمة أهل البيت للانطلاق بالمنهج الإسلامي في اتجاه،يصيِّر العقل أساسا للقاعدة الفكرية الإسلامية  

التي تبيِّن للفرد المسلم المعايير التي يجب أن يلتزم بها ،ومن ثمّ، تضبط حركته في الحياة والوجود. (38)

-المقولة الخامسة:((ذمَ-الله ُ- الذين لا يعقلون)).(39)

   وبدا في قول الحق- تعالى:((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ))[البقرة/170].وقول الحق- تبارك تعالى-:(( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)) [الأنفال/22].ويمكن القول أنّ العقل قوّة إلهية يهتدي بها كلُّ شيء في العالم العُلوي،والعالم السُفلي من خَلق الله من الأفلاك، والكواكب،والجماد، والحيوان غير الناطق، والإنسان لاجتلاب مصلحته وما به قوامُهُ وبقاؤُهُ  على قَدرِ ما تهيأ له.وهو هنا ما يسميه المتكلمون العقل الفعّال، في حين يرى قوم آخرون،أنّه غريزة في قلوب الممتحنين من عباد الله،أقام به على البالغين منهم الحجة ، فهو حاضر فيهم في الولادة ثم يزداد في مراحل العمر الأخرى، فالعقل الذي منحنا اللَّه،ينهض بعدد من المهام، تظهر في القدرة على التفكير،ومعرفة ما أنزله سبحانه،وعندما يبلغ الإنسان سن الرشد، فإنّه يتحمّل  مسؤولية،لأنّه عاقل،ومن أجل هذا،فإنّ اللَّه لا يهلك  قوما إلّا ويذكرهم،ويخاطب عقلهم بما يدركه من عظات، وإذا كان كان اللَّه قد منّ علينا بالعقل ، فلكي يخاطبنا بوساطته (40).وقد جاء عن أبي عبد الله الصادق  (عليه السلام) أنّه قال:((قال رسول الله   (صلى الله عليه وآله)  : يا علي لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل.)).(41)

 

الجزء الثاني


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد