الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

  • 15 - 10 - 2021
  • 43837
د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟

 

    يعد هذا السؤال سؤالاً محوريا مؤسساً لكثير من الدراسات العربية الإسلامية؛ لأن الاستشراق صار مصدراً أساسياً لمعظم الدراسات المعاصرة للقراءات القرآنية, لذا نجد من الضرورة بمكان أن نتعرف على أهم مصدر ومنبع للدراسات القرآنية المعاصرة, واليات اشتغاله المعرفيّ وغاياته وأهدافه الاستراتيجية.

 

مصطلح الاستشراق:

    تبنى هذه الكلمة صرفياً من حروف الزيادة (است) + شرق), وهي صيغة تفيد الطلب؛ بمعنى طلب الشرق مثل: الاستفهام لطلب الفهم, والاستعمار لطلب العمران , فما هو الشرق المطلوب, وما هو المطلوب من الشرق, الشرق جغرافياً هو كل مكان تظهر من جهته الشمس , وعليه يكون الشرق مكان غير ثابت التحديد فالشرق بالنسبة لنا هو ليس شرقاً بالنسبة لأمريكا أو اليابان, وهكذا...

     ولكن مطالعة المعاجم والدراسات الاستراتيجية نجد أن مفهوم الشرق محدد عندهم بالوطن العربي من المغرب العربي إلى الخليج العربي, وهو ما يسمى بالشرق الأدنى , وما بعده بالشرق الاقصى, الصين واليابان, فمن أين جاء هذا التحديد.

      فنجد أن حوض المتوسط كان في القرون الوسطى هو مركز العالم بقيادة الدول الأوربية, ومنها بدا تقسيم العالم الى شرق وغرب, وفيه وضعت دول شمال افريقيا مع الشرق وليس مع الغرب, وثبت في دوائر المعارف العالمية بأن الشرق (( اسم يطلق على الأقطار والجزر الأسيوية وفي بعض الاحيان يطلق على القسم الغربي من أسيا والتي تسمى بالشرق الادنى, ويشمل ايضا الدول المطلة على البحر المتوسط التي ترتبط بعامل الدين واللغة مع الدول الأسيوية)).

     وهذا التقسيم ليس جديدا بل هو قديم و فقد كان في العالم قوتان تتصارعان أحدهما في بالشرق والاخرى في الغرب, وهما الفرس والروم, وبعدها الصراع بين المسلمين والصليبيين ثم الصراع بين العثمانيين والاوربيين.

      أما المستشرق فهو كل شخص يدرس لغات الشرق وفنونه وحضاراته وعلومه, ولكن تغيرت دلالة هذا المفهوم, ليصبح دالاً على كل غربي يدرس الدين الإسلامي أو اللغة العربية, وهو تغير خطر في دلالته فدخلت فيه غايات أخرى غير الغايات العلمية والبحثية.

     ولم يكن هناك تاريخ محدد لبداية الاستشراق وانتشاره, ولكن نستطيع تحديد مراحل تطور فيها العمل الاستشرافي حتى وصل إلى ما هو عليه في القرن العشرين, وهو قمة العمل الاستشرافي؛ إذ انتشرت أفكارهم في الجامعات العربية الإسلامية.

 

اولاً: المرحلة الأولى: مرحلة الانبهار بالعلوم الإسلامية.

     تبدأ هذه المرحلة حينما بدأ الأوربيون يطلعون على ما موجود من علوم لدى الأندلسيين, تقول المستشرقة الألمانية (هونكه): (( في مراكز العلم الأوربية لم يكن هنالك عالم واحد من بين العلماء إلا ومد يده على الكنوز العربية يغرف منها ما شاء الله أن يغرف)).

ثانياً: مرحلة ما بعد الحروب الصليبية:

  

     بعد أن انتهت الحروب الصليبية انتقلت المعركة الى ساحة الفكر والعلم, وقد دعمت الكنيسة هذا التوجه, فأقامت في مجمع فيينا عام 1311م, للكنائس برئاسة البابا أكلمنتس الخامس بتأسيس اقسام للدراسات العربية والشرقية, والتي عرفت لاحقاً بكراس الدراسات الشرقية في العديد من الجامعات الغربية لدراسات العربية والعبرانية والكلدانية, وبعدها تم تأسيس المعاهد الخاصة بالدراسات العربية الإسلامية.

 

ثالثاً: مرحلة التنظيم لعملية الاستشراق:

   

    بدأت مرحلة جديدة في الاستشراق تظهر ملامحها في نهاية القرن الثامن عشر, بعد ان أدرك الغربيون ضرورة تنظيم العملية الاستشرافية فتم عقد المؤتمرات الاستشراقية منذ 1783م. وفي هذه المرحلة تحول كثير من المستشرقين الى موظفين في وزارات الخارجية لبلدانهم فأخذوا يعملون تحت غطاء المناهج العلمية لتحقيق أهدافهم.

    وظهر الاتجاه المنظم للعملية بإصدار العديد من الكتب والمجلات في البلدان الغربية والاستيلاء على الكنوز العربية الإسلامية المتمثلة في المخطوطات والوثائق المهمة ونقلها إلى البلدان الغربية في مكتباتها ومتاحفها عن طريق شرقتها أو شرائها وقد بلغ في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمشين الف مجلد جميعها تمثل تراث الأمة العربية الإسلامية.

 

رابعاً: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى:

     تميزت هذه المرحلة من الاستشراق بطهور نزعة تدعوا الى تحرير الاستشراق من الأغراض التبشيرية وانتهاج البحث العلمي المجرد لكنه لا يخلو من التعصب للسياسة الاستعمارية, وبدأ عصر الاستشراق في هذه المرحلة يركز على الجانب السياسي حينما تعرض المستشرقون المعاصرون في دراساتهم للمجتمعات العربية وثقافتها كما ركز الاستشراق على المشاريع الغربية في سياق التوجه الاستعماري نحو المنطقة العربية من خلال دعم اليهود في اقامة دولتهم على أرض فلسطين.

 

 

  دوافع الاستشراق وأهدافه:

    أولا: الدافع الدينيّ:

    

   بعد الحروب الصليبية, تأكد لأصحابها أن قوة المسلمين تكمن في تمسكهم بدينهم, فتوجهوا إلى اضعاف هذا التمسك محاولة منهم لإذعان العرب والمسلمين, فبدأوا بالتشكيك بعلوم المسلمين ووصفها بالجهل والتخلف, وأن الإسلام دين تخلف وأمام المسلمين طريقان لا ثالث لهما فإما أن يظلوا مسلمين ويظلون على تخلفهم وجهلهم, وإما أن يتركوا الإسلام ويتجهوا إلى المسيحية دين العلم والمعرفة, وظلت هذه الدعوة منتشرة لحد اليوم, وقد أعان هذه الرؤية الفقر والجهل المنتشر في ربوع الدول الإسلامية, وتحول جهل المسلم إلى جهل الإسلام.

 

ثانيا: الدافع الاستعماري:

   

     الحركات الاستشراقية هي في حقيقتها امتداد لوحشية الحروب الصليبية فاذا كانت محاولات التغلغل الاستعماري في البلاد العربية والإسلامية قد بدأت منذ مطلع القرن السادس عشر والقرون اللاحقة فإنها تمكنت في بداية القرن العشرين من الاستيلاء على البلاد العربية والإسلامية وبدأ المستعمرون دراسة أوضاع هذه البلدان عن طريق تشجيع الاستشراق ودعمه في القيام بدراسات التي تتناول أوضاع المسلمين في بلدانهم لحاجة المستعمرين للعمل على اضعاف المسلمين وبث الفرقة والوهن بين صفوفهم واضعاف روح المقاومة الصمود واستبعاد فكرة الجهاد, كل هذ يكون من خلال معرفة المستشرقين بالتفاصيل الدقيقة للمجتمع الإسلامي .

 

 

ثالثاً: الدافع الاقتصادي:

    دخل الدافع الاقتصادي في ميدان النشاط الاستشراقي بتشجيع ودعم من قبل الاوربيين المستعمرين, الذين كانوا يرغبون معرفة الأحوال الاقتصادية لبلدان العربية والإسلامية للسيطرة على الثروات الاقتصادية لهذه البلدان, وجعل هذه البلدان شوقاً للبضاعة الأوربية الاستعمارية, وفي هذا الصدد طالب مجموعة من المستشرقين جامعة كمبردج بإنشاء مركز للدراسات العربية الإسلامية, وقد جاء في مذكرة الدعوة قولهم ((يضع المركز نصب عينيه خدمة مصالح الملك والدولة وذلك بالعمل من أجل ازدهار تجارتنا مع اطار الشرقية  وتوشيع حدود الكنيسة –اذا شاء الله في الوقت المناسب ونشر هدي الدين المسيحيين أولئك الذين لا يزالون يتخبطون في ظلمات الجهالة)), وقد تبنى المهتمون بشؤون الشرق وضع الامكانيات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق في ميادينها المختلفة.

 

رابعاً: الدافع السياسي:

   

     يمثل الدافع السياسي عصب الاستشراق لأن معظم السفارات الأوربية تؤدي أثراً كبيراً وبارزاً في خدمة الاستشراق, بما تمكنه من اتصال برجال الفكر والمثقفين والامتزاج بهم للتغلغل بين صفوفهم, وبث الاتجاهات السياسية التي تخدم دولهم , وتثبت الأفكار الهدامة والثقافات الأوربية في عقول العرب والمسلمين .

 

خامساً: الدافع العلميّ:

 

     وربما تكون هذه هي السمة الإيجابية الوحيدة للاستشراق, إذ أن المستشرقين أقبلوا على دراسة الحضارة العربية الإسلامية, وما قدمه العلماء العرب والمسلمين للعالم بدافع علمي بغية الاستفادة من تراث العرب والمسلمين وحضارتهم, وقد وجد بعض المستشرقين من كرس كل جهده لبيان هذا الجانب وترك كل الدوافع الأخرى الاستفادة من تراث امتنا, وقد انصفوا هؤلاء في كتاباتهم وذكروا بفضل العرب على أوربا عندما ابتعدوا عن الاهواء السياسية والتعصب القومي والديني وكرسوا اقلامهم بنقل الحقيقة فجاءت مؤلفاتهم حقا ذات طابع علمي واثبتوا بوضوح للعالم الغربي حينئذ صدق ديننا واصالة حضارتنا ، كما اثبتوا زيف وافتراء بعض المستشرقين الذين انصب حقدهم على الاسلام ويذكر الباحث (كارلايل) (( لقد اصبح من اكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر ان يصغي الى ما يظن من ان دين الاسلام كذب ، وان محمدا خداع مزور وان لنا ان نحارب ما يشاع من مثل هذه الاقوال المخجلة فالرسالة التي اداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنيرة مدة اثنى عشر قرنا لنحـو مائتي مليون من الناس امثالنا خلقهم الله الذي خلقنا ، أكان أحدهم يظن ان هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هؤلاء الملايين الفائتة الحصر والاحصاء اكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا استطيع ان ارى)).

 

ويصنف مالك بن نبي المستشرقين نوعين:

     النوع الأول : من حيث الزمن طبقة القدماء مثل جوبر دوربياك والقديس توماس الأكويني وطبقة المحدثين مثل بحارة دوقو وجولد تسهير.

     والنوع الثاني : من حيث الاتجاه العام نحو الاسلام والمسلمين لكتاباتهم ، فهناك طبقة المادحين للحضارة الاسلامية ، وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها.

ولكي نلقي الضوء على كل فئة نورد بعض آراء المستشرقين: يذكر نولدكه ((ان سبب الوحي النازل على محمد(ص) والدعوة التي قام بها هو ما كان ينتابه من داء الصرع)). ويذكر كارل بروكلمان ((اقتبس النبي عن التوراة فكرة الخطيئة الأصلية ، وانما ترجع معتقداته فيما يتعلق بالعالم الآخر الى مصادر يهودية وهكذا تتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسية وبابلية قديمة)).

      كما يذكر جولد تسهير (( فتبشير النبي العربي ، ليس الا مزيجا من معارف وآراء دينية عرفها او استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها ، والتي تأثرت بها تأثيراً عميقاً ورآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه)).

    وهكذا يصور هؤلاء المستشرقين الدين الاسلامي، وان الافتراضات التي يحاولون أن يجعلوها حقيقة لتحقيق أهدافهم السياسية تبدو هزيلة وواهية ، وتنطوي على المغالطات والافتراءات التي يرددها اعداء الاسلام من المبشرين.

  أما من كتب من الفئة الثانية التي انصفت الاسلام فنذكر على سبيل المثال اللورد هيدلي، وقد أثار اسلامه ضجة كبيرة لمركزه وعلمه ونضجه، ويذكر في رفضه للمسيحية واعتناقه الإسلام: ((عندما كنت اقضي الزمن الجميل في حياتي الأولى في جو المسيحية كنت أشعر دائما أن الدين الإسلامي به الحسن والسهولة وأنه خلو من عقائد الرومان والبروتستانت)).

     ثم الفونس اتيان رينيه الذي اعلن اسلامه في الجديد بمدينة الجزائر سنة ١٩٢٧ وسمي باسم ناصر الدين رينيه . ثم الكونت دي كاستري الذي تعمق في دراسة الاسلام ونشر كتابه (الاسلام سوائح وخواطر ) الذي تحدث فيه عن جوانب مهمة من الاسلام ورسوله الكريم (ص).

     ثم ذكر اديب روسيا تولوستوي الذي عرف الدين الاسلامي ثم عرف ايضا الحملات المسعورة التي تعرض اليها الاسلام ، وكتب مبينا رأيه في هذا الدين الذي اعجب فيه ، وتحدث عن رسوله الذي كان يكن له الاكبار ثم يذكر ريسكه في كتاباته عن الاسلام والعرب والذي اتقن اللغة العربية وامعن في دراسة الكتب العربية واطلع على المخطوطات العربية في جامعة لندن ولقد ابغض اللاهوتيين ريسكه.

وحاربوه لأنه انصف العرب والمسلمين ولأنه مجد الاسلام ولم يتفق معهم في اكاذيبهم وافتراءاتهم حول محمد (ص).

 


اذا لم تظهر لك التعليقات فأعد تحميل الصفحة (F5)

مواضيع أخرى للناشر

توصيات المؤتمر

يوم السبت الموافق 29 جمادى الاول 1444 الموافق 24/كانون الاول/ 2022 تحت عنوان بناء الانسان السبيل الامثل لبناء المجتمعات اجتمع
......المزيد

رؤى معاصرة في العلوم الانسانية والاجتماعية

أقامت مؤسسة النخب الأكاديمية ودائرة البحوث والدراسات في ديوان الوقف الشيعي المؤتمر العلمي السنوي الثاني ( رؤى معاصرة في العلوم
......المزيد

إعلان عن دورة في مناهج التفسير

تعلن منصة النخب الأكاديمية عن برنامجها الفكري المتكامل والذي سيبدأ في الأيام القادمة في شهري شعبان و رمضان المباركين.
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني 2 د. أحمد الأزيرجاوي

آليات التعامل مع النص القرآنيّ: أولاً منهجهم في دراسة التراث:
......المزيد

الاستشراق وأثره في فهم النص القرآني

د. أحمد الأزيرجاوي لماذا ندرس الاستشراق؟
......المزيد

شقشقة ليست بعيدة عن أجواء عاشوراء وأنا تراب نعل أبي تراب

تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً ، أحين استصرختمونا والهِين ، فأصرخناكم موجفين ، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ،
......المزيد

الانهيار الشيعي في العراق

اُسدل الستار على الشيعة كجماعة سياسية في العراق وانتهى دورهم كقوة محتملة فاعلة ومؤثرة في مسار السياسة الإقليمية والدولية بعدما
......المزيد

دولة القانون تدعو الحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين

تدعو كتلة دولة القانون وزارة الصحة والحكومة الى تحمل مسؤوليتها في حماية ارواح المواطنين من المرضى الراقدين في المستشفيات والتعامل
......المزيد